البضاعة الفاخرة والوكيل المهمل

خاص بمناقشة القضايا الإسلامية من عقيدة، و فكر، و فقه، و فتاوى، الخ.
شارك بالموضوع
حارسة القرآن
مشاركات: 33
اشترك: فبراير 19th, 2007, 12:37 pm
المكان: حلب-سوريا

فبراير 28th, 2007, 4:41 pm

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
إخوتي أنقل لكم هذه الخطبة لفضيلة الشيخ باسل الجاسر رحمه الله لما فيها من الفائدة وأرجو الدعاء له بالمغفرة:

أيّها الإخوة المؤمنون:
يتساءل الكثير من المسلمين ماذا يترتب على المسلم أن يفعل في هذا الزّمان الّذي كثر فيه الفساد وكثرت فيه الفتن؟! أيكفي المسلم أن يقوم بفرائضه، ويجتنب المحرمات؟! أيكفي المسلم أن يصوم رمضان، ويصلي الصّلوات الخمس، ولا يشرب الخمر، ولا يأكل المال الحرام، ولا يزني، فيسمّى بذلك مسلماً، ويعد قائماً بحقوق الإسلام، أم إنّه مطالبٌ بأكثر من ذلك؟! وهل تترتّب عليه واجبات أخرى غير هذه الواجبات الواضحات؟!.
وحتّى نعلم أيّها الأحبّة ماذا يترتب على المسلم من واجبات في هذا الزّمان لابدّ من أن نضرب لذلك مثلاً، هذا المثل من شأنه - لو فهمناه - أن يوضح لنا كم نحن مطالبون بأن نفعل أشياء كثيرة، ويوضح لنا كم نحن مقصّرون في فعل ما هو مطلوب منّا، لو أنّك أردت أن تشتري قطعة قماش لتصنع منها ثوباً متيناً يبقى معك زماناً طويلاً، سألت عن باعة الأقمشة في مدينتك فأخبروك أنّ باعة الأقمشة جميعاً موجودون في سوقٍ واحد، ذهبت إلى ذلك السّوق فرأيت أحد المحالّ قد وضع دعاياتٍ كثيرةً تدل على محلّه، من قبل أن تصل إلى السّوق سمعت عن هذا المحل، قرأت عنه في الصّحف الإعلانيّة، ورأيت دعاياتٍ له في الطّرقات، وسمعت بعض الدّعايات له في الإذاعة، فصار مشهوراً عندك يرغّبك في زيارته ويحضّك على الشّراء من عنده، وعندما اقتربت من السّوق وجدت لافتاتٍ كثيرةً متناثرةً هنا وهناك تدلّك على طريق هذا المحلّ، تضع لك أسهماً تشير إليك إلى موقع هذا المحلّ في السّوق، ألا تشعر بالرّغبة في الذّهاب إليه؟ بلى. تمضي باتجاه هذا المحلّ، فتصل إلى الشّارع الّذي يقع فيه هذا المحلّ، فتجد موظفين وقفوا لاستقبالكّ يرحّبون بك، ويبتسمون في وجهك، يقولون لك: مرحباً وأهلاً وسهلاً، شرّفت محلّنا تفضّل، إنّك تجد نفسك في هذه الحالة منجذباً بطريقةٍ لا شعوريّة نحو هذا الدّكّان، تقترب منه فتجد لافتةً كبيرةً جداً موضوعةً فوق هذا الدّكّان تعرّف به، باسمه، وماذا يعمل، وماذا يبيع، وما هي البضائع الّتي يحتويها هذا الدّكّان، والأضواء الموضوعة خارج الدّكّان تجعل اللّيل نهاراً، تقترب أكثر وأكثر فتجد زيناتٍ، وتجد " ديكور " متميّزاً جداً داخل هذا الدّكّان، تدخل لتشتري منه فيستقبلك الباعة في داخل الدّكّان بابتسامةٍ ظاهرةٍ على محيّاهم، يرحّبون بك ويقنعونك ببضاعتهم بشتّى الوسائل، ويعطونك حججاً وبراهين مقنعةً بأنّ بضاعتهم هي خير بضاعة في السّوق، ثمّ إذا اشتريت من عندهم أعطوك مع ما يبيعونك هدية، ودعوك لأن تزورهم مرّة أخرى، كلّ هذه الأمور الجذّابة المغرية موجودةٌ في هذا الدّكّان، غير أنّ هناك مشكلةً واحدةً فقط في هذا الدّكّان هو: أنّ البضاعة الّتي يبيعها بضاعةٌ سيئةٌ جداً، فقطعة القماش الّتي تشتريها اليوم تصنع منها ثوباً تلبسه مرّةً واحدةً ثمّ ترميه في القمامة، هذا هو الشّيء الوحيد السّيئ، هو الشّيء الّذي تريده، وأمّا كلّ شيءٍ آخر فإنّه جذّاب مغرٍ، فماذا تفيد هذه الزّينات وماذا يفيد هذا الأسلوب الجميل وهذه الدّعايات إذا كانت البضاعة سيئة؟! ولكنّ كثيراً من النّاس تهمّهم الدّعاية وتهمّهم الجاذبيّة والإغراء أكثر ممّا يهمّهم نوع البضاعة الّتي يشترون، في هذا السّوق دكّانٌ متميزٌ جداً، عنده وكالة قماشٍ فاخر هو أفخر قماشٍ في العالم، هذا الدّكّان له الوكالة الحصريّة لهذا القماش في البلاد، لا يوجد هذا القماش إلاّ عنده، ولكنْ قليلون الّذين سمعوا بهذا، الدّكّان قليلون الّذين عرفوا شيئاً عن هذا القماش الفاخر الّذي يوجد حصراً عند هذا البائع، سمعت من بعض النّاس كلاماً يفيد أنّ هذا الدّكّان عنده بضاعة فاخرة فجرّبت أنّ تذهب إليه، سألت عنه في السّوق فلا أحد يعرفه، ليست له دعايات، وليس له أيّ نشاطٍ تعريفيّ يعرّف النّاس بموقع دكّانه، بنوع بضاعته، بمزاياها وما يميّزها عن غيرها، ومع ذلك بحثت وبحثت إلى أن وصلت إليه، وجدته في زاويةٍ مهملةٍ من السّوق وليس على باب الدّكّان أيّة لافتة تعرّف بما يبيع هذا البائع، مع أنّه يبيع أفخر بضاعةٍ في السّوق، دخلت إليه فوجدت الظّلام دامساً في الدّكّان، ووجدت الغبار متراكماً فوق الرّفوف، بحثت عن البائع، لم تجد بائعاً، ولم تجد معرّفاً، ولم تجد مستقبلاً،،، بحثت أنت عن البائع داخل الدّكّان فوجدته شبه نائمٍ في زاويةٍِ من زوايا الدّكّان، سلّمت عليه وسألته عن بضاعته، فنظر إليك باشمئزاز نظر إليك بتكاسل وكأنّه يريد أن يطردك لألاّ يتعب ولألاّ يبذل جهداً في القيام والبحث عن البضاعة والسّؤال والجواب ثمّ البيع، ومع ذلك أنت تريد أن تشتري بضاعةً جيّدة، وأنت متأكد أنّ البضاعة الجيّدة موجودةً حصريّاً عند هذا البائع، ماذا تصنع؟ لا تهمّك المعاملة السّيّئة، ولا يهمّك هذا الإنسان السّيئ، لأنّك تريد بضاعته ولا تريد شخصه، تصابر إلى أن تحصل على بغيتك، مع أنّ هذا البائع ينفّرك من بضاعته ويكاد يطردك من دكّانه، ومع ذلك فإن كنت عاقلاً فإنّك ستصرّ على الشّراء منه، ولكنْ كم الّذين يفعلون هذا؟! كم الّذين يصرّون على الشّراء من هذا البائع؟! إنّهم قليلون، والغالبيّة العظمى من النّاس لن يصلوا إلى البائع أصلاً، لأنّهم يتبعون الدّعاية الّتي تغريهم ولا يبحثون عن شيء لا يعرفونه، وحتّى ولو سمعوا بهذا الشّيء ثمّ جاءوا يزورونه فرأوا هذا الظّلام، ورأوا هذا الغبار، ورأوا هذا الإهمال، فإنّهم لن يفكّروا بالشّراء منه وحتّى لو دخلوا من أجل الشّراء منه ورأوا هذه المعاملة السّيئة فإنّهم سينفرون، ويقولون: إذا كانت هذه البضاعة عند أمثالك فإنّني أبيت ولا أريد أن أشتريها.
أيّها الأحبّة هذا هو مثل المسلمين مع إسلامهم، وذاك هو مثل أصحاب الأديان الأخرى في هذا الزّمان, المسلمون أيّها الإخوة أصحاب رسالة أعطاهم الله سبحانه وتعالى شرفاً عظيماً وخصّهم بالوكالة الحصريّة للدّين المرضي عند الله سبحانه، فهم وحدهم حملة لواء الحقّ، وعندهم لا عند سواهم الشّرع الّذي يُرضي الله سبحانه وتعالى، { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * } ، عندهم الكتاب الّذي من أعتزّ بغيره ذلّ، ومن اهتدى بغيره ضلّ، ومن استمسك به فقد هدي إلى صراط مستقيم، عندهم الشّرع الّذي يهدي النّاس إلى سعادة الدّارين الدّنيا والآخرة، عندهم شريعةٌ كاملةٌ لم تدع للإنسان شاردةً ولا واردة في دينه ودنياه إلاّ وعلمته كيف تكون، وهدته إلى صلاحه فيها، المسلمون هم حملة هذا الدّين العظيم ولكنّهم كأمثال ذلك البائع الّذي عنده وكالةٌ حصريّة لبضاعة فاخرة، ولكنّه ليس أهلاً لهذه الوكالة، لم يقم بالدّعاية لها والتّعريف بها ثمّ لم يدعو النّاس بأسلوبه الجميل إلى الشّراء منها، بل لقد نفرهم، وبطريقةٍ عمليّةٍ قال لهم: إيّاكم ثمّ إيّاكم أن تأتوا إلي وتأخذوا عني، إيّاكم ثمّ إيّاكم أن تتبعوا ديني، لقد حذّرهم من ذلك بأفعاله ونفّرهم من ذلك بأحواله، ففقد النّاس خيراً عظيماً، وخسروا سعادة الدّنيا والآخرة بسبب سوء تمثيل هذا الوكيل للبضاعة الرّائعة الفاخرة الّتي خصه المنتج بها، هذا الوكيل السّيئ المسيء المهمل إذا سمع المنتج بأخباره ماذا يصنع، إذا سفرت يوماً ما إلى بلد المنشأ الّذي تنتج فيه هذه الأقمشة، ووصلت إلى المعمل الصّانع لها والتقيت بصاحب المعمل، سيسألك كيف أحوال بضاعتنا في بلادكم؟ تقول: له نحن لم نسمع ببضاعتكم أساساً، يقول لك: كيف وقد وضعت وكيلاً في بلادكم وخصصته بشرف وكالة بضاعتي الفاخرة الّتي يتخاطفها النّاس في البلاد الأخرى؟!! فتقول: والله لم نسمع بها أبداً، وإذا كنت من أهل الإطلاع، تقول له: نعم أعرف هذه البضاعة، وأعرف هذا الوكيل، ولكنْ أنا أعرفه وكثيرون لا يعرفونه، وحكيت له عن أخباره، وحكيت له عن إهماله، وعن معاملته السّيئة، وتنفيره للناس...
إنّه بالتّالي لا يضرّ بنفسه فقط، بل يضرّ بالبضاعة ويجعل سوقها كاسدة، مع أنّها بضاعةٌ رائجةٌ لو عرضت عرضاً جيّداً، ماذا يصنع المنتج في هذه الحالة أيّها الأحبّة؟ عندما يسمه أخبار الوكيل وتقصيره وإهماله في عرض البضاعة الفاخرة ماذا يصنع المنتج؟ الأمر بسيط إذا كان التّقصير يسيراً يرسل إلى الوكيل تنبيهاً ثمّ تنبيهين إلى أن يصلح أحواله، وأمّا إذا كان التّقصير كبيراً، واستمرّ التّقصير، ولم ينفع التّنبيه، فلن يجد المنتج بدّاً من أن يسحب هذه الوكالة من هذا الوكيل، ويقول له: لقد جرّبتك ولم تكن أهلاً لهذا الشّرف، ولم تكن أهلاً لهذه المزيّة الّتي خصصتك بها، لذا سأسحب منك الوكالة وأعطيها غيرك، لقد أسأت كثيراً إليّ وإلى بضاعتي، وأعطيت صورةً ناقصةً، وربّما صورةً مشوهةً ومغلوطةً عنّي وعن إنتاجي بسبب سوء تصرّفك وسوء تمثيلك لي في بلدك.
أيّها الأحبّة هذا ما نفعله اليوم مع الإسلام، هذا ما يفعله المسلمون مع الإسلام إنّهم منفرّون يدعون النّاس إلى الابتعاد عن الإسلام بطريقة غير مباشرة، يقولون لهم: إيّاكم ثمّ إيّاكم أن تأتوا إلى ديننا، نحذّركم أن تأخذوا عنّا هذا الدّين، ها نحن أولاء نماذج سيئة لهذا الدّين، لأتباع هذا الدّين، معاملةٌ سيئةٌ، أخلاقٌ سيئةٌ، تقصيرٌ في التّطبيق، انحراف عن المنهج، فأيّ شيءٍ يدعوكم إلى أن تتبعوا ديننا.
النّاس أيّها الأحبّة حائرون متخبطون، الإنسانيّة كلّها تبحث عن الضّياء الّذي ينقذها من ضلالاتها ويبدد لها ظلامها الّذي خيّم مئاتٍ من السّنين، النّور موجود، النّور نملكه نحن، النّور أعطانا الله إياه { قَدْ جَاءكُم مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * } ، الإنسانيّة حائرة تبحث عن الهدى، والهدى عندنا { إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } ، الإنسانيّة ضائعة، الإنسانيّة عطشى تبحث عن الماء الّذي يرويها وينقذها قبل أن تموت، والماء عندنا بأيدينا ولكنّنا نمنع النّاس من أن يشربوا منه، حتّى نحن لا نشرب منه، حتّى نحن عطاشٌ نبحث عن الماء عند الآخرين، والماء عندنا والآخرون يبحثون عنه، أيّ غباءٍ وأيّ إساءةٍ هذه الّتي فعلناها مع ديننا مع هذه الحضارة العظيمة الّتي ورثناها عن الأنبياء والمرسلين...
أيّها الأخوة ليست مسؤوليّة المسلم أن يقوم بصلاةٍ وصيامٍ وعبادةٍ، ينبغي أن يعرف كلّ مسلمٍ أنّه وارث النّبوات والرّسالات، وأنّه ممثل لله تعالى في إيصال شرعه إلى النّاس على هذه الأرض، الله جلّ وعلا لا يُنزِل الدّين على كلّ فرد على حدة، ولكنّه يرسل الدّين إلى النّاس من خلال الأنبياء، وبعد أن انقطعت النّبوّات، وتوفّي خاتم الأنبياء والمرسلين سيّدنا محمّدٌ صلّى الله عليه وسلّم، لم يعد هناك نبيٌّ مرسلٌ يوصل هذا الدّين العظيم من الله جلّ وعلا إلى النّاس، صارت المسؤوليّة ملقاةً علينا - ورّاث النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام - صارت مسؤوليتنا أن نحمل هذا الدّين إلى من يحتاجون إليه، إنّهم يبحثون عنه أيّها الأحبّة، إنّ كلّ إنسانٍ على وجه الأرض يحارب الإسلام بسبب جهله بالإسلام ذنبه في رقبة المسلمين، وإنّ كلّ إنسانٍ يعيش زمانه كلّه يعيش حياته كلّها كافراً لا يعرف عن الإسلام شيئاً، ويموت كافراً ذنبه في رقبة المسلمين، إنّ كلّ إنسانٍ يعيش في مشارق الأرض أو مغاربها لم يصله الإسلام؛ فإنّ المسلمين يتحملون مسؤوليته لأنّهم هم المسؤولون عن إيصال هذا الإسلام إليه، وفي المقابل أيّها الأحبّة هناك أناسٌ عندهم بضاعة تالفة، بضاعةٌ قد انتهت صلاحيتها وعفا عليها الزّمن، ومع ذلك فإنّهم بقليلٍ من الدّعاية وقليلٍ من الزّينة وقليلٍ من المعاملة الجميلة يقنعون النّاس بأن يشتروا بضاعةً قد انتهت صلاحيتها ولم تعد نافعةً في هذا الزّمان لا في دين ولا في دنيا، إنّهم يحسنون تمثيل بضاعتهم التّالفة فيروّجون لها بكلّ الأساليب، النّصارى يفعلون ذلك، الهندوس يفعلون ذلك، البوذيون يفعلون ذلك، حتّى اليهود يمثلون دينهم تمثيلاً حسناً، مع أنّ دينهم المحرّف قبيحٌ مليءٌ بما يخزي ويعيب، ومع ذلك فإنّهم يحرصون على تمثيله تمثيلاً حسناً، أيّ إنسانٍ يسيء إلى دينهم في أيّ بقعةٍ من الأرض يشنّون عليه حرباً عالميّة تحت تهمٍ شتّى، من معاداة السّاميّة والتّفرقة الطّائفيّة وما إلى ذلك، إنّهم حريصون على تمثيل دينهم القبيح تمثيلاً حسناً، نتيجة ذلك أنّ معظم الأمم صارت تحترم اليهود، رغم أنّهم ليسوا أهلاً للاحترام، تحترم اليهود لأنّهم أقنعوهم باحترامهم من خلال الدّعاية ومن خلال إحسان التّمثيل ومن خلال الاستماتة في الدّفاع عن سمعتهم وفي الدّفاع عن سمعة دينهم، البوذيون يعملون بجهود حثيثة في أوربا وأمريكا وسائر بقاع الأرض لنشر دينهم، مع أنّ دينهم لا يصلح أن يكون دين حياة، إنّما هو مجموعة من التّعاليم الرّوحيّة، إضافةٍ إلى مجموعة من الخرافات اللاّعقلانيّة، اجتمعت مع بعضها فَسُمّيت ديناً، ومع ذلك فإنّ كثيراً من الأوربّيّين والأمريكان يدخلون في البوذيّة لأنّ البوذيين يحسنون تمثيل دينهم السّيئ، الهندوس يفعلون ذلك رغم أنّ دينهم دينٌ من الخزعبلات، قائمٌ على عبادة الأصنام، والخرافات الّتي لا تدخل عقل عاقل، ومع ذلك فإنّ الأمم صارت تحترم هؤلاء الهندوس لأنّهم أحسنوا تمثيل دينهم، كلّ أصحاب الأديان حريصون على الدّعاية الجيّدة والتّمثيل الجيّد لدينهم وينجحون، إلاّ المسلمين فإنّهم رغم أنّهم يملكون الدّين الحقّ الوحيد ورغم أنّهم يملكون الشّريعة الوحيدة الّتي تسعد الإنسان في دنياه وآخرته، ومع ذلك فإنّهم يسيئون تمثيلها ولا يشعرون بالمسؤوليّة تجاهها.
أيّها الأحبّة إنّ المسلمين اليوم في أحسن الأحوال مستهلكون جيّدون، ويندر أن تجد فيهم منتجاً وفيهم كثيرون مستهلكون سيّئون، أمّا المستهلك الجيّد فهو هذا الإنسان الّذي يطبّق الإسلام على نفسه بشكل جيّد، يستفيد من الإسلام ويكتفي بذلك، يلتزم بتعاليمه فرائضها وسننها، يلتزم بتعاليمه بالتّفصيل ولكنْ التزاماً شخصياً، فهو مستهلك مستفيد لم يقدم للإسلام شيئاً ولم يقدم للإنسانيّة شيئاً ولم ينقل هذا النّور إلى الإنسانيّة الّتي تتخبط في الظّلام، وأمّا الفئة العظمى من المسلمين فإنّهم لا هم منتجون ولا هم مستهلكون جيّدون، بل إنّهم مستهلكون سيّئون مخرّبون، لم ينقلوا هذا الدّين إلى الآخرين، لم يكتفوا بذلك بل إنّهم لم ينتفعوا هم أنفسهم بهذا الدّين ولم يطبقوه كما ينبغي على أنفسهم، وما أعجب هذا!! مدينة انتشر فيها العطش وهناك إنسانٌ عنده ماء جارٍ يأتيه بشكل دفّاق من النّبع، النّاس كلّهم عطاش يبذلون جهوداً في البحث عن الماء تارةً يسافرون خارج البلد بحثاً عن نبعٍ أو نهر وتارة ًيحفرون داخل البلد بحثاً عن مياهٍ في جوف الأرض، وعندما لا يجدون يرضون من الماء بالماء الآسن الآجن، يرون مستنقعاً قذر المياه فيشربون منه ويظنون أنّ هذا أنظف ماءٍ في الوجود، لأنّهم لم يروا أنظف منه، يجدون بحيرةً مليئةً بالأوبئة، فيشربون منها هذا هو الموجود، وهذا الّذي عنده الماء الجاري الّذي يأتيه من النّبع مسكين يبحث معهم عن الماء ويشرب معهم من المستنقع، فلا هو يشرب من ماءه الجاري العذب الزّلال، ولا هو يسقيهم ويفيدهم، فما أجهله وما أغباه!! عَطِشٌ بين قوم عطاش، ولكنّ مسؤوليّته أعظم، هم ليس عندهم ماء فإن شربوا من المستنقع فلعلّهم يعذرون لأنّهم لم يجدوا أنظف من ماء المستنقع، وأمّا هو فما عذره والماء العذب يجري بين يديه؟! ما عذره إن ترك هذا الماء العذب وشرب معهم من المستنقع؟! وما عذره إن حرمهم من هذا الماء العذب؟! أيّها الأحبّة هذا حالنا، الأمم الأخرى لم تعرف ما نعرف، لم تعرف الّذي عرفنا من دين الله، فهي معذورة إن بحثت عن سعادتها وصلاحها في الشّرق والغرب واخترعت أفكاراً وفكّرت وأخطأت وخرّبت، لعلّ هذه الأمم تعذر لأنّها لم تصل إليها هذه الرّسالة المنقذة رسالة السّعادة، وأمّا نحن فإنّ الرّسالة بين أيدينا ونحن نتركها ونبحث كما يبحثون، ونبحث حيث يبحثون.
أيّها الأحبّة مسؤوليّة المسلم إذاً ليست متوقفةً على تطبيق أحكام دينه، هذا هو الحد الأدنى، بل إنّه دون الحد الأدنى الّذي ينقذه من عذاب الله يوم القيامة، إنّ المسلم وارث الأنبياء والمرسلين كلّهم، فالدّين الّذي توالى على بناء صرحه الأنبياء على مدى آلاف السّنين آل بناءً شامخاً إلى هذا المسلم، فماذا صنع المسلم به؟ لقد ضربت لكم سابقاً هذا المثل، إنسانٌ ورث بناءً شامخاً ساهم في بنائه أجيالٌ سبقته، بدء جدّه الكبير في بناء هذا البيت فبناه بيتاً متواضعاً، جاء ولد هذا الجدّ الكبير فحسّن في البيت وكبّره، جاء الّذي بعده فأضاف إليه غرفة جاء الّذي بعده فوضع عليه بعض الدّهانات والتّزيينات، جاء واحدٌ آخر فرفع طابقاً فوق هذا الطّابق، وهكذا كلّ جيلٍ كان يضيف إضافةً ويطور تطويراً في هذا البناء، إلى أن آل هذا البناء إليك فماذا صنعت به؟ آل هذا البناء إلى إنسانٍ وارث لم يحسن وراثة بناء أجداده، لم يحسن وراثة أجدادٍ منتجين، أخذ هذا البناء فأجرم في حقّه جرائم عديدة، منها أنّه أغلق كثيراً من غرف هذا البناء وطوابقه ولم يعرف ماذا في داخلها، واكتفى بالسّكنى في غرفةٍ واحدةٍ ضيقةٍ في هذا البناء الشّامخ، لم يكتفي بهذا بل إنّه كتم هذا الأمر، كتم أمر البناء الكبير عن النّاس المشرّدين الّذين لا يجدون مأوىً يؤويهم، يبحثون عن بناءٍ كهذا البناء يسكنون فيه، فلم يخبرهم ولم يأتِ لهم بذكرٍ لهذا البناء، ليس هذا فحسب بل صار يبحث معهم عن مسكنٍ يسكن فيه، فيسكن تارةً في خيمة، ويسكن تارة في كوخ، وهو يملك هذا القصر ولا ينتبه إلى ما فيه من غرفٍ كثيرةٍ وطوابقَ شامخة، فيبحث مع المشرّدين عن بناءٍ، والبناء عنده، والبناء الّذي عنده يؤوي كلّ أولئك المشرّدين لو شاء، لم يكتفي بذلك أيّها الأحبّة بل لقد صار يخرّب في هذا البناء، ويسيء إلى جدرانه وسقفه، بل تعدت إساءته إلى هذا البناء الجدران والسّقف، فصار ينخر في أساساته لينسف تراثاً عظيماً بناه أجداده على مدى آلاف السّنين، هذا ما صنعنا أيّها الأحبّة مع هذا البناء العظيم الّذي اسمه الإسلام، حضارةٌ شامخةٌ توالى على بناءها قرونٌ وأجيال وصلت إلينا فلا نحن استفدنا من كلّ ما فيها، ولا نحن سكنّا كلّ غرفها، ولا نحن تعرّفنا على كلّ إمكاناتها، ولا نحن دعونا الآخرين للاستفادة منها، ولا نحن زدنا فيها وطوّرنا، ويا ليتنا توقّفنا عند ذلك، ويا ليتنا لم نزد ولم نطوّر فحسب، ولكنّنا خرّبنا وأسأنا إلى هذا البناء، وورثناه لأبنائنا شرّاً ممّا ورثناه، أيّها الأحبّة لو فكّرنا في هذا الأمر لما غمض لنا جفنٌ في ليلٍ، ولما راقت لنا حياةٌ في نهار، لو فكّرنا في هذا الأمر لشعرنا كم نحن مجرمون في حقّ هذا الدّين، كم نحن مجرمون في حقّ هذا التّراث العظيم، وفي هذه الحضارة الغنيّة، نعيش لنأكل ونشرب ونتزوج ونعمل وننجب وانتهى الأمر، ولا نشعر أنّنا مسؤولون، أنّنا وارثون لدينٍ عظيم ليس له ممثّل غيرنا, لو أنّ الله جلّ وعلا عاملنا بما نستحقّ ماذا يصنع؟ سيسحب منّا هذه الوكالة، سيقول لنا: لقد خصصتكم بوكالةٍ لدينٍ عظيمٍ لم تقدروه قدره، ولم تعطوه حقّه، أنتم غير مستحقّين لهذا الدّين العظيم، لذا سأسحب منكم وكالته، سأسحب منكم الإسلام لأنّكم لم تقوموا بحقّه ولم تخدموه كما يستحقّ، لو فعل الله بنا ما نستحقّ لسحب منّا شرف الإسلام لأنّنا لم نخدمه ولم ننتفع به، ما رأيك ببائع القماش هذا الّذي عنده هذه الوكالة إذا رأيته يلبس ثياباً ممزّقةً، وربمّا ثيابه لا تستر عورته ما رأيك به، تقول: سبحان الله!! كنّا نبحث عن قماشٍ جيّد، ولا نعرف أنّ هناك قماشاً جيّداً بمثل هذه الجودة موجوداً عندك!، بحثنا كثيراً، اشترينا من محل فيه زينةٌ وفيه إغراءات، وبعد أن لبسنا قماشه مزّقناه ورميناه في القمامة، اشترينا من عند آخر ومن عند ثالث، حتّى ظننا أنّه لا يوجد أبداً قماشٌ جيّد، وهاهي ذي ملابسنا ممزّقة، ثمّ نجد عندك هذا القماش وأنت لم تخبرنا!! يا ويلك من الله، يا ويلك من الله لأنّك تركتنا عراةً وعندك هذا القماش الجيّد، يا ويلك من الله لأنّك تركتنا عطاشاً وهذا الماء العذب بين يديك، سنحاسبك ونقاضيك عند الله يوم القيامة، نعم أيّها الأحبّة كلّ إنسانٍ باحثٍ عن الإسلام لا يجد الإسلام وهو موجودٌ عندك يا أيّها المسلم سيحاسبك سيقاضيك بين يدي الله يوم القيامة، ويقول لك: كان الإسلام عندك وحرمتنا منه، كان الإسلام عندك ولم تخبرنا، والأعجب من هذا نحن معذورون إذا لبسنا ثياباً ممزّقة لأنّنا لم نجد القماش الجيّد، ولكنْ أنت الوكيل الحصريّ لهذا القماش الجيّد نجدك تلبس ثياباً ممزّقة!! نجدك مكشوف العورة!! ما أعجب أمرك يا أيّها المسلم!! ما أعجب أمرك يا أيّها الوارث المسيء لهذا التّراث العظيم!! أيّها الأحبّة بضاعتنا نفيسة، ولكنّنا وكلاء مهملون لا مبالون لا نستحقّ هذه البضاعة، عندما يأتي إنسانٌ باحثٌ عن الإسلام - تسوقه الأقدار إلى الإسلام لا بجهودنا ولكنْ بتوفيق الله - بعد أن يُسْلم يشعر بالنّقمة على هؤلاء المسلمين الّذين حرموه من هذه العظمة ومن هذا النّور طوال تلك السّنين، يقول له: يا فلان أنت صديقي لقد عشت معك زمانناً طويلاً، ولم تخبرني أنّ دينكم فيه مثل هذه العظمة ومثل هذه الرّوعة، يا ويلك من الله، يا ويلك من حساب الله يوم القيامة، أنا اهتديت ولكنّ غيري كثيرين لم يهتدوا، لأنّك لم تقم بحقّ هذا الدّين معهم ولم تعرّفهم به، سيشعر بالنّقمة تجاهك لأنّك لم توصل إليه هذا الهدى، لأنّك كنت تعيش من أجل شخصك، تعيش من أجل مصلحتك الدّنيويّة فقط ولا تفكّر بدينك.
أسألكم بالله أيّها الأحبّة لو أنّ هذا الوكيل خدم هذه البضاعة، ونشر دعاياتٍ لها، وروّج في الأسواق لبضاعته، ووضع لافتاتٍ، وأنفق أموالاً لبيع هذه البضاعة، هل يكون خاسراً؟ هل تربح الشّركة المنتجة الصّانعة ويخسر الوكيل؟ لا، بقدر ما تربح الشّركة المنتجة يربح الوكيل، بقدر ما يبذل الوكيل من أجل ترويج بضاعته يزداد ربحه، بقدر ما ينفق يربح، هذا في العرف التّجاري المادّيّ عند أهل الدّنيا، فما بالك وأنت وكيلٌ للإسلام، وكيلٌ للدّين، وكيلٌ لدين الله تعالى، لو أنّك نذرت عمرك كلّه في سبيله فلن تكون خاسراً، لو أنّك أنفقت ما تملك كلّه من أجل نشره فلن تكون خاسراً، إنّك أنت الرّابح، بقدر ما تروّج لهذا الدّين تربح، وبقدر ما يدخل النّاس فيه تكسب، تكسب في الدّنيا والآخرة، فهل شعرت بمسؤوليتك يا أيّها المسلم؟ هل شعرت أنّ أولئك الضّالين التّائهين في صحيفة أعمالك ضلالهم وتيههم، هل شعرت أنّ كلّ إنسانٍ تعامله ولا تعرّفه بدينك فإنّه حجّة عليك، إذا كان الماء عندك فاشرب منه حتّى ترتويّ، ثمّ اسق الآخرين حتّى ترويهم، أمّا أن تكون مقصراً في حقّ العطاش والماء معك فإنّ هذا بخلٌ ما بعده بخل، وأنانيّةٌ ما بعدها أنانيّة، وشرّ من هذه الأنانيّة أن تحرم النّاس من الماء وتحرم نفسك منه ولا تشرب أنت أيضاً، إن كان هناك مانعٌ يمنعك من شرب الماء، فلا أقلّ من أن تدعو الآخرين للشرب وأن تقول لهم: إنّني لا أستطيع شرب هذا الماء مريض أشرب الماء فأغص به، وما أعجب الإنسان الّذي يغص بالماء العذب الزّلال!! ولكنْ هناك أنواعاً من الأمراض تجعل الإنسان حتّى بالماء العذب يغص، إذا كنت هكذا لا تستطيع أن تنتفع بالماء الّذي بين يديك، فلا أقل من أن تفيد الآخرين وتعرّفهم به، لأنّهم يبحثون عنه يا أيّها المسلم، إنّهم يبحثون عنه، فكفاك كفاك إساءةً لهذا التّراث العظيم، كفاك إساءةً لهذه البضاعة النّفيسة، كفاك إساءةً إلى النّاس وإجراماً بحقّ الإنسانيّة وبحقّ الدّين وبحقّ نفسك، نعم إنّ الّذي يكتم هذا النّور عن النّاس التّائهين مجرمٌ في حقّ التّائهين، ومجرمٌ في حقّ النّور ومجرمٌ في حقّ نفسه، كفانا أيّها الأحبّة.
الّذي يطبق الدّين على نفسه ويكتفي بذلك مستهلكٌ جيّد، هذا إن طبّق الدّين كما ينبغي بكلّ التّفاصيل، مستهلكٌ جيّد، ولكنّه ليس منتجاً بحال من الأحوال، فكيف ونحن نرى معظم المسلمين مستهلكين سيئيّن لدينهم؟! لا يكفيك أن تكون مستهلكاً لا سيّئاً ولا جيّداً، بل لا بد من أن تكون منتجاً، وأن تشعر بمسؤوليّتك تجاه هذا الدّين، اُنْذُرْ نفسك الدّين، ضع حياتك من أجل نشر هذا الدّين، حتّى تكون أهلاً لهذه الوكالة الّتي خصّك الله بها، لألاّ يأتي يومٌ يقول لك الله فيه: لقد أعطيتك مهلةً طويلةً، وأعطيتك فرصاً عديدة، ولم تصلح أحوالك، فلا بدّ من أن أسحب منك الوكالة لأنّك لم تخدمها كما تستحقّ، احذر أن تقف مثل هذا الموقف بين يدي الله يوم القيامة، عندما سيسألك عن وكالة الإسلام، ماذا فعلت لها؟ وماذا قدّمت من أجلها؟ ماذا فعلت لتروّج الإسلام وتنشره بين النّاس؟ ماذا فعلت لتوصل هذا النّور إلى أولئك المتخبّطين التّائهين؟
إذاً من سألني ما هو واجب المسلم في هذا الزّمان؟ فإنّني لن أجيبه بكلامٍ كثير أقول له: واجب المسلم أن يكون عمله متناسباً مع قيمة إسلامه، هذا هو المختصر المفيد، فإذا كان النّصرانيّ صاحب الدّين المحرّف الّذي انتهت صلاحيته يعمل عملاً عظيماً لخدمة دينه، فإن عمله أكبر بكثيرٍ ممّا يستحقّ دينه في هذا الزّمان، أنت لست مطالباً بأن تغير صورة الإسلام وأن تلمعه لأنّه لامع بنفسه لا يحتاج إلى تلميع، لست مطالباً بأن تحسّنه لأنّه حسن بنفسه لا يحتاج إلى تحسين، أنت مطالبٌ فقط بأن تعرضه كما هو، وألاّ تكتمه، وألاّ تشوهه، وألاّ تعرضه مغلوطاً مغايراً لحقيقته، واجبك إذاً أن يكون عملك متناسباً مع قدْر هذا الدّين، ولا يكون هذا العمل إلاّ بعد أن تعرف ما قدْر هذا الدّين، اعرف قدْر دينك ثمّ اعرف مسؤوليتك تجاهه، لتكون أهلاً لهذه الوراثة وأهلاً لهذه الوكالة الّتي خصّك الله بها، فكن أهلاً لها وإيّاك أن تخونها وأن تهملها فتكون شرّ خلف لخير سلف، اللّهم اجعلنا من الّذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول واستغفر الله.
وما توفيقي إلا بالله

شارك بالموضوع
  • معلومات
  • الموجودون الآن

    الاعضاء المتصفحين: لا مشتركين و 1 زائر