الصليـــــــــــب نمــــــــط حــــــــــياة جــــديــــــدة

خاص بمناقشة القضايا والمسائل التي تهم الحوار المسيحي الإسلامي من إيمان و عقيدة و فكر إلخ
شارك بالموضوع
ELIYA ALGHYOR
مشاركات: 55
اشترك: أغسطس 1st, 2008, 3:35 pm

أغسطس 20th, 2008, 3:43 pm

الصليب علامة. لا صليب من دون المصلوب. الصليب علامة المصلوب. والمصلوب يسوع. توجُّهنا إلى الصليب تَوَجُّهٌ إلى يسوع المصلوب.

الصليب، بالروح التي يرتسم فيها، هو، أولاً، دستور إيمان. فإن فيه عارضتَين: واحدة عمودية وواحدة أفقية. العمودية تشير إلى ابن الله النازل من فوق والحالِّ بين الناس، على قولة يوحنّا الإنجيلي: "والكلمة... حلّ بيننا" (يو 1: 14). والأفقية تشير إلى كون ابن الله تجسّد: "والكلمة صار جسداً". إذاً في يسوع تجتمع السماء والأرض. تلتقيان. الألوهة والبَشَرة. الله كلُّه والإنسان كلُّه. يسوع كائن فريد لم يكن مثله في التاريخ. ابن الله اتّخذ بشرتنا. صار إنساناً. بقي هو الإله وصار إنساناً في آن. لم يختلط ما لله فيه ولا تشوّش بما للإنسان. ومع ذلك ما لله وما للإنسان فيه صارا واحداً. يسوع كائن واحد. إلهٌ وإنسانٌ معاً. هذا وجه الفرادة فيه.

لماذا انصلب؟ انصلب لأنّه إنسان. الصليب تأكيد لكونه إنساناً. انصلب لأنّه اتُّهم زوراً بما ظُنَّ أنّه يستحقّ الصلب. بشرياً كان الصلب علامة ضعف. المصلوب بين الناس يُصلَب مرغَماً ولا حول له ولا قوّة. هذا لم يكن حال يسوع. يسوع هو الإله أولاً. لذلك اقتبل الضعف عن إرادة لا عن ضرورة، عن قوّة لا عن عجز. قولُه واضح: "ليس أحد يأخذها [أي نفسي] منّي بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً" (يو 10: 18 ). والسؤال حقّ: لماذا اقتبل الضعف وهو القوي؟ لماذا ارتضى أن يُسمَّر على الصليب طوعاً وأن يموت؟ هنا بالذات يكمن سرّ صليب المسيح!

الله محبّة (1 يو 4: 8 ). إذاً يسوع محبّة. كلّه محبّة. كل ما يفعله يفعله عن محبّة. وبما أنّ من شيم المحبّة أن لا تقاوم الشرّ، كما سبق ليسوع فعلّم (مت 5: 39)، بما أنّ المحبّة تحتمل كل شيء وتصبر على كل شيء (1 كو 13: 7)، لذلك كان بديهياً ليسوع أن يقبل ظلم الصلب ولسانُ حاله: "اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). إذاً فَعَل اليهود ما فعلوه عن جهل. فهل يعامِل العارفُ الجاهلَ كمثل عَمَلِه؟ هل يقابل إثمه بإثم؟ كانوا بحاجة إلى تأديب؟ صحيح! الموضوع هو كيف تؤدِّب الأثيم؟ بين الناس تأديبُ مَن يُعتَبَرون جُناةً يكون بالحبس، بالحرمان، بالضرب، بالموت. لكن هذه ليست، في العمق، للتأديب. تدابير الناس، في مثل هذه الحالة، هي من باب الاقتصاص من الجاني، من باب تخويفه وتخويف غيره، لا من باب تأديبه. عند الله التأديب يكون بالمحبّة. هم أبغضوه هو أحبّهم. هم أدانوه هو غفر لهم. التأديب الأصيل لا يقوم على القهر، على التشفّي، على قطع الجناة. التأديب الأصيل، التأديب الذي يبني، الذي يُصلح الإنسان، هو أن تعطيه الفرصة، إذا ما ظلمك، أن يعرف في العمق، أن يُحسّ، في قرارة نفسه، بأنّه ظلمك. كيف تبلّغه إلى مثل هذا الإحساس العميق؟ بأن تحبّه بكل صدق، من القلب من دون أي سلبية. ليس شيء كالحبّ الأصيل يمكن أن يزلزل الظالم، أن يجرِّده من مبرِّرات ظلمه، أن يعرّيه. لا شيء كالحبّ يجعل الظالم يذوق مرّ الجحيم في أعماق نفسه. هذا تأديب حقيقي لأنّه يؤلم ويعطي الإنسان، في آن، فرصة أن يتوب، أن يتغيّر، أن يصطلح. لأنّ يسوع جاء ليخلِّص ما قد هلك لذلك قابل إساءات اليهود بالمحبّة الكاملة. الله لا يفرح بموت الخاطئ إلى أن يرجع ويحيا.

ما فعله يسوع لم يكن ممكناً أن يفعله إنسان. الناس بإزاء الناس يتصرّفون بدافع الخوف، لذلك يعنفون، لذلك يظلمون، لذلك يَقطعون. الله، بإزاء الناس، يتصرّف بدافع المحبّة، لذلك يقابل الشرّ بالخير، يقبل الظلم ولا يقتصّ من أحد. الناس باقون ظالمين في كل حال ولو كان الجناة منهم مستأهلين للقصاص. طالما أنت لا تواجه مآثم الآخرين وقصدك أن تصلح شأنهم، أن تعينهم على ما هم فيه، أن تساعدهم على أن يقوَوا على ما في أنفسهم من فساد فأنت تظلمهم. دائماً ما نساوي ما بين الشرّ والشرّير، ما بين الإثم والأثيم، ما بين الخطيئة والخاطئ. الخطيئة شيء والخاطئ شيء آخر. الخطيئة ننبذها، نحاربها، نقاومها، أما الخاطئ فنرحمه ونشفق عليه ونحبّه. كيف نفعل ذلك؟ كيف نميِّز ما بين الخاطئ وخطيئته؟ لا يمكننا أن نفعل ذلك إلاّ إذا أحببناه. نحبّه حتى لو أساء إلينا. نحبّه، على طريقة يسوع، حتى الصليب. بعد ذلك قد يصحو وقد لا يصحو. قد يتوب وقد لا يتوب. ولكنْ هناك فرصة حقيقية أن يعود إلى أصالته، أن يتوب. ومتى تاب فإنّه من ذاته يُقلِع عن خطيئته، ينصرف عن شروره. نحن مهما حاولنا لا يمكننا أن نقضي على خطيئته. ليست قوّة في العالم قادرة على أن تغيِّر الإنسان ما لم يتغيّر هو من نفسه. ولا يتغيّر الإنسان إلاّ إذا تاب. عملنا هو بالضبط أن نأتي به إلى التوبة لو أمكن، أن نساعده على التوبة. هذا، بالضبط، هو ما فعله يسوع: أراد أن يأتي باليهود، بالبشرية، إلى التوبة لأنّ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. "ليس بار ولا واحد. ليس مَن يفهم... الجميع زاغوا وفسدوا. ليس مَن يعمل صلاحاً ليس ولا واحد" (رو 3: 10 – 12). بإزاء شرورنا قدّم لنا دواء أوحد: الصليب! اقتبله هو أولاً حتى يكون لنا قدوة، حتى لا يظنّ أحد أنّ ما يقوله يسوع كلام أجوف. إذا ما كان يسوع قد اقتبل الصليب فلكي نقتبله نحن أيضاً، لا بقوانا طبعاً، لأنّنا لا نستطيع، بل بقوّته هو، بالقوّة التي فعلت فيه هو لمّا ارتضى أن يتسمّر على الصليب. لذا أعطانا روحه. فلأنّه فعل ذلك صار بإمكاننا أن نفعل ما فعله هو وأكثر كما قال. من هنا قولة بولس الرسول عن نفسه: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوّيني". صليب المسيح يعطيني قوّة المسيح، يعطيني فرحه. "بالصليب أتى الفرح إلى كل العالم". الصليب هو الانقلاب الوحيد الناجح على كل ما عانت وتعاني منه البشرية. الصليب هو الجواب. لذا قال الرسول المصطفى بولس: "لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلاّ يسوع المسيح وإيّاه مصلوباً" (1 كو 2: 2). إذا كان للعارضة العمودية في صليب المسيح طرفان فالطرف الأعلى أَنْزَل يسوع إلى الناس حتى، بالطرف الأدنى، يَصعدوا بروح يسوع إلى أعلى السموات!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
+ غيرة غرت لربِّ الصباؤوت +

شارك بالموضوع
  • معلومات
  • الموجودون الآن

    الاعضاء المتصفحين: لا مشتركين و 1 زائر