ابن سينا

مراقب: Hatem

شارك بالموضوع
Hatem
مشاركات: 520
اشترك: سبتمبر 10th, 2002, 8:50 pm

مايو 8th, 2003, 11:27 pm

<center><u><font size=+3>ابن سينا
</center></font></u>

<font size=+1>"ابن سينا"(1) أبو علي الحسين بن عبد الله (باللاتينية : أفيسنّا، وهي مأخوذة عن العبرية: أفن سينا): كان يعتبر طوال عدة قرون – ولا يزال يعتبر في بعض بلاد الشرق الإسلامي – إمام العلوم كلها "الشيخ الرئيس" أما سيرته التي وردت في كتاب ابن أبي أصيبعة (طبعة مولر، جـ2، ص2 وما بعدها) فقد كتبها تلميذه أبو عبيد الجوزجاني كما أملاها الرئيس بنفسه. وتقول هذه الترجمة إنه ولد عام 370هـ (980م) بأفشنة بالقرب من بخاري. وكان أبوه من أهل بلخ. انتقل إلى بخاري وتولى العمل بقلعة خرميثن، وتزوج امرأة من أفشنه وبعد أن رزق منها بولديه، استقر ببخاري وفيها تلقى ولداه العلم، وحفظ ابن سينا القرآن ودرس الأدب على معلم حتى بلغ العاشرة. وقد دعاه دعاة الإسماعيلية الذين كانوا يترددون على دار أبيه إلى الأخذ بعلومهم، إلا أن أنظارهم عن النفس والعقل لم تترك في نفسه أثراً بليغاً أول الأمر. وبعد أن درس الفقه، أخذ المنطق والهندسة وعلم النجوم عن أبي عبد الله الباتلي. ولما كان التلميذ قد نما جسمه ونضج عقله في سن مبكرة، فقد بذ أستاذه ودرس وحده الطبيعيات والإلهيات والطب. وسرعان ما مكنته تجاريبه في الطب من فهم هذه الصناعة فهماً جيداً، بيد أنه لم يستطع فهم الإلهيات إلا بعد قراءة مصنف للفارابي. وقد بتت هذه القراءة في خطته الفلسفية، ذلك لأن أنظار الفارابي في المنطق والإلهيات التي يرجع أصلها إلى شروح فلاسفة الأفلاطونية الجديدة وتعليقاتهم على كتب أرسطو، هي التي حددت وجهة تفكيره الفلسفي. وكانت سنه إذ ذاك تتراوح بين السادسة عشرة والسابعة عشرة. وقد أتاحت الفرصة السعيدة في الوقت نفسه لهذا الشاب النابه معالجة سلطان بخاري نوح بن منصور، وتمكن بذلك من دخول دار كتبه. ولما كان سريع الفهم قوي الذاكرة إلى حد عجيب، فقد استطاع في قليل من الزمن أن يحصل من العلم ما جعله قادراً على إبراز معارف عصره في صورة علمية. وبدأ يصنف الكتب في سن الواحدة والعشرين، وأسلوبه بالجملة واضح مفهوم.
وبعد أن توفى أبوه – وكان ابن سينا إذ ذاك في الثانية والعشرين من عمره – اضطربت حياته غاية الاضطراب، وكثر فيها الجد واللهو، كما كثر فيها الإخفاق. وكتب أهم تصانيفه في أويقات الهدوء التي كان يغتنمها في بلاد جرجان والري وهمذان وإصفهان، نذكر منها بنوع خاص دائرة معارفه الفلسفية، "كتاب الشفا" (طهران 1303هـ) ومصنفه الهام في الطب "القانون في الطب" (طهران 1274، بولاق 1294هـ). وكتب أثناء أسفاره مختصرات لكتبه الكبرى، كما كتب عدة رسائل في موضوعات متنوعة. واشتغل بالعلم حيناً وبالسياسة حيناً آخر، إلا أن نجاحه في هذا الميدان الأخير كان ضئيلاً. وترجع مكانته إلى أنه كان كاتباً موسوعياً دوّن العلوم للأجيال اللاحقة. وقضى فيلسوفنا أيامه الأخيرة في كنف علاء الدولة بإصفهان، ومرض ابن سينا في الطريق أثناء الحملة التي قام بها علاء الدولة على همذان عام 428هـ(1037م). وتوفى بهمذان، ويوجد قبره فيها إلى الآن. وقد أكثر الناس من قراءة تواليفه ومن شرحها، كما نقل الكثير منها إلى اللغات الأوروبية. وتراه العامة في المشرق كساحر هاملن Hameln الذي جذب الجرذان بمزماره.
ولا نستطيع أن نفصل القول هنا في آراء ابن سينا التي لا يزال يرجع إليها في الأوساط الدينية والفلسفية والطبية في الشرق إلى اليوم رغم ما وجهه إليها الغزالي من المطاعن، ولكنا نكتفي هنا بإجمالها والإشارة إلى مميزاتها.
فهو يتبع الفارابي إلى حد بعيد في المنطق وفي نظرية المعرفة، وكذلك الحال في مسألة "الكليات" التي تتصل بالإلهيات والمنطق معاً، فالكلي يوجد مستقلاً عن وجود الأشخاص المتكثرة "كصورة معقولة بالذات" في عقل الله وعقول الملائكة (العقول الفلكية) وتفيض هذه الكليات عن عقل الله وتتصل بتوسط العقول المفارقة بالأشخاص من جهة وبالعقل الإنساني من جهة أخرى، وهو العقل الذي ترد فيه الكثرة إلى تصور كلي. وكان ابن سينا أميل إلى اعتيار هذا التصور صادراً عن العقل الفعال أكثر منه نتيجة لقوة التجريد الخاصة بالعقل الإنساني، وهو في هذه النظرة أقرب إلى الأفلاطونية الجديدة منه إلى المشائية.
ومع أن ابن سينا يسهب في كلامه عن المنطق إلا أنه لا يعتبره إلا مدخلاً للفلسفة. أما الفلسفة الحقة فهي إما نظرية وإما عملية؛ وتشمل الأولى الطبيعيات والرياضيات والإلهيات وفروعها، وتشمل الثانية الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة. ولم يعن ابن سينا بالفلسفة العملية، وهو في تصنيفه للعلوم الفلسفية الذي راعى فيه وضع الطبيعيات أولاً ثم الرياضيات ثم الإلهيات، ينظر إلى تجرد موضوعاتها عن المادة شيئاً فشيئاً. ولا ريب أن الإلهيات تعرّف بأنها علم الموجود المطلق، والموجود المجرد مطلوب فيها وليس موضوعاً لها، ولكن هذا المطلوب يصبح موضوعها الأساسي عند التعمق في البحث.
ومع أن طبيعيات ابن سينا تأخذ في جملتها بالسنة الأرسطاطاليسية إلا أننا نجد فيها أيضاً أثراً للأفلاطونية الجديدة. ويظهر هذا الأثر بنوع خاص في نظريته القائلة فأن الأحداث الأرضية تتأثر بالأجرام السماوية لا عن طريق الحرارة المنبعثة منها، وإنما عن طريق ما تشعه من الضوء. ويجب أن نعتبر أراءه عن العقل من الأفلاطونية الجديدة أيضاً، تلك الآراء التي لم يوفق فيها علم النفس عنده مع ما له في هذا العلم من الآراء الكثيرة التي تشهد ببراعته.
وقد كان أثر ابن سينا كبيراً في الطب بنوع خاص، وظل هذا الأثر في الغرب إلى القرن السابع عشر، أما في الشرق فأثره باق إلى الآن. فهو جالينوس العرب. وكم نحن في حاجة إلى البحث عن مقدار ما أضافه ابن سينا إلى هذا العلم من نتائج مشاهداته الخاصة! على أننا نرى – من الوجهة النظرية على الأقل – أنه كان يحل التجربة المحل الأكبر، ويدرس الحالات المختلفة التي يظهر فيها أثر العلاج الناجع.
ونجد في شرح ابن سينا لإلهيات أرسطو (ولنترك رياضياته التي لا نعرف عنها إلا القليل) إلى جانب العناصر المستمدة من الأفلاطونية الجديدة محاولة ترمى إلى التوفيق بينها وبين العقيدة الإسلامية. وأثنينية الروح والمادة (الفعل والقوة) والله والعالم أوضح عند ابن سينا مما هي عند الفارابي، كما أنه عرض مسألة خلود النفوس الفردية على وجه أدق. وهو يعرّف المادة بأنها إمكان الوجود، وليس الخلق إلا نوال الوجود وتحققه بالفعل بعد أن كان بالقوة وليست الماهية والوجود شيئاً واحداً إلا في الله، أما فيما هو خارج عنه فالوجود عارض على ماهيته. ويسمى نوال هذا الوجود بلغة الإلهيات "خلقاً" وهذا الخلق القديم. والله الذي هو واجب الوجود وواحد لا كثرة فيه من أي جهة من جهاته علة ضرورية من شأنها أن تفعل منذ القدم، ومعلولها الذي هو العالم يكون على هذا قديماً كذلك. وهذا العالم ممكن في نفسه (حادث) ضروري بعلته. ويفرق ابن سينا بين حدوث هذا العالم الذي هو ممكن وضروري في آن واحد، وبين حدوث جميع الكائنات الأرضية التي لا تدوم إلا حيناً من الزمن، ذلك لأن الإمكان محصور فيما دون فلك القمر. ولقد قادته بنوع خاص آراؤه عن النفس من الوجهة الإلهية إلى أنظار صوفية بعضها، في قالب شعري. وكما اضطره مرة خطر داهم إلى الفرار من وجه أعدائه متنكراً في زي الصوفية، فكذلك يحتمل أن تكون ألجأته الضرورة في ساعات انقباضه إلى الكتابة بروح صوفية، وإذن فتصوفه شيء عارض يتوج بناء مذهبه، ولكنه لا يدعمه أو يقومه.
</font>
<center>---------------------
</center>
<FORM METHOD=POST ACTION="http://www.ushaaqallah.com/ubbthreads/d ... hp"><INPUT TYPE=HIDDEN NAME="pollname" VALUE="1052436423Hatem">
<p>رأيك في هذا المقال:
<input type="radio" name="option" value="1" />ممتاز.
<input type="radio" name="option" value="2" />جيد جداً.
<input type="radio" name="option" value="3" />جيد.
<input type="radio" name="option" value="4" />مقبول.
<input type="radio" name="option" value="5" />غير مفيد.
<INPUT TYPE=Submit NAME=Submit VALUE="أرسل رأيك" class="buttons"></form>

Hatem
مشاركات: 520
اشترك: سبتمبر 10th, 2002, 8:50 pm

مايو 8th, 2003, 11:39 pm

<u><font size=+2>هوامش علي مقال:ابن سينا
</font></u>

(1) إن ما يعرف الآن عن حياة ابن سينا لم يعد قاصراً على ما أورده ابن أبي أصيبعة ومن نحا نحوه (كالقفطي وابن خلكان) في إثبات الترجمة المعروفة التي كتبها بالعربية أبو عبيد عبد الواحد الجوزجائي عن أستاذه ابن سينا، ذلك لأنه – إلى جانب هذه الترجمة العربية التي لم ينشر بعد نصها الكامل كما ورد في مخطوطين: أحدهما لظهير الدين البيهقي عنوانه "تاريخ حكماء الإسلام" والآخر لشمس الدين محمد بن محمد العبرزوري عنوانه "روضة الأفراح ونزهة الأرواح" – توجد ترجمة أخرى كتبها بالفارسية محمد بن عمر بن علي المعروف بالنظامي العروضي السمرقندي في مصنفه "جهار مقاله" أي أربع مقالات (انظر القصص: 14، 15، 21، 24، 26، 32، 34، 36، 38) الذي نشره بالإنجليزية إدوارد براون عام 1921 (وانظر المجلة الآسيوية، يوليه وأكتوبر 1899). وتلقى هذه الترجمة الفارسية – مضافاً إليها الزيادات الواردة في المخطوطين المذكورين، وكذلك ما جاء عن فيلسوفنا في كتاب الكامل لابن الأثير وتاريخ الأولياء لفريد الدين العطار وكشف الظنون لحاجي خليفة – ضوءاً جديداً على ما خفي من جوانب حياة الرئيس، وخاصة على تواريخ أسفاره وكتبه، وذكر شيوخه وتلاميذه والأعلام الذين اتصل بهم ممالا يعرف من الترجمة المتداولة التي اعتمد عليها ده بور.

ولد ابن سينا بأفشنة عام 370هـ، وانتقل مع أسرته إلى بخارى عام 375هـ، وأتم دراسة اللغة والأدب وهو في سن العاشرة على يد رجل لم تذكره الرواية المعروفة، ويحتمل أن يكون هذا الرجل هو أبا بكر أحمد ابن محمد البرقي الخوارزمي (حاجي خليفة، جـ3، ص 276). وتذهب الترجمة المعروفة إلى أنه درس الطب بمفرده، ويروى من جهة أخرى أنه تلقاه على يد أبي سهل المسيحي، وأبي منصور الحسن بن نوع القمري.

وانتقل من بخارى إلى كركانج عام 392هـ أثر سقوط عرش السامانيين بين يدي أمير غزنة السلطان محمود بن سبكتكين. وخرج من كركانج إلى جرجان عام 403 فاراً من وجه سلطان غزنة أيضاً (السمرقندي القصة 36) ويحتمل أن تكون قصة لقائه لأبي سعيد بن أبي الخير شيخ متصوفة ذلك العصر التي ذكرها فريد الدين العطار قد وقعت في نفس هذا العام. ونجده في عام 406هـ بالري ثم بهمذان حيث ولى الوزارة مرتين، ولا شك أنه ترك الوزارة قبل عام 411هـ لأننا نجد في أخبار هذا العام عند ابن الأثير ذكراً لوزير آخر. وبقي بعد وزارته مضطهداً من أمير همذان الجديد ووزيره تاج الملك: فبثت حوله العيون، وسجن بعض الزمن، وظل زمناً آخر مختبئاً حتى فاز بالفرار إلى أصفهان عام 414هـ. ولا شك أن رسائله الرمزية التي صنفها في فترة اضطهاده وفراره لا تصور نزعة صوفية – كما يرى مهرن Mehren – بقدر ما تصور أزمته النفسية. ولم تقتصر حياته السياسية على الوزارة والنضال في سبيلها بهمذان، ذلك لأنه عاش طوال حياته يبغض أمراء غزنة رغم ما بذلوه في اجتذابه إليهم واشترك إذ كان بأصفهان في بعض المؤمرات السياسية ضدهم، وربما كان سبب ذلك ما وقع منهم آنئذٍ من اضطهاد للفلاسفة والنجوميين والمعتزلة (ابن الأثير، جـ6، أخبار 420). على أنه عاش نديماً لأمير أصفهان علاء الدولة بن كاكويه الذي اتهم بالزندقة لملازمة ابن سينا له (ابن الأثير، جـ6، أخبار 428) إلى أن توفى عام 428هـ. ويرى ابن خلكان روايات مختلفة عن موضع وفاته، كما ذهب بعض أوربي العصور الوسطى إلى أنه توفى بالأندلس بدسيسة من ابن رشد (Die Philos. Sectis: Vossius، ف 14، ص 113) والواقع أن قبره لا يزال يزار بهمذان إلى الآن.

ولقد اتصل بكثير من علماء عصره كابن مسكويه وأبي ريحان البيروني وأبي القاسم الكرماني والطبيب أبي الفرج بن طبيب بن الجاثلين وأبي نصر العراق وأبي الخير بن الخمار وغيرهم. وذكر السمرقندي من تلاميذه الجوزجاني، وأبا الحسن بهمنيار بن المرزبان الأذربيجاني وأبا منصور بن زبلا (زيله؟) والأمير أبا كالنجار وسليمان الدمشقي، ويضيف البيهقي أبا عبد الله المعصومي (المعصري خطأ) وكان يقول ابن سينا عنه: "هو مني بمنزلة أرسطو من أفلاطون" وينفرد ابن أبي أصيبعة بذكر أبي القاسم عبد الرحمن النيسابوري والسيد عبد الله بن يوسف شرف الدين الإيلافي.

ولقد ألم ابن سينا بكل معارف عصره إلماماً عجيباً، حتى فتن الأجيال اللاحقة التي خلقت منه شخصاً أسطورياً هائلاً. ويوجد في الأدب التركي كتاب بأكمله عن هذه الشخصية الأسطورية (Rev.de L'hist.: R. Basset des Religions 1903). نظم ابن سينا بالعربية، كما كان من أوائل من نظموا الرباعيات بالفارسية.
وبرز بصفة خاصة في الطب، وكان يتهافت الأمراء عليه لطبه. ولقد حدثنا ده بور عن أثر القانون في الشرق والغرب، ومما يدل على سعة انتشاره بين الغربيين أنه طبع باللاتينية ست عشرة مرة في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الخامس عشر. وأعيد طبعه عشرين مرة في القرن السادس عشر. وهذا الإحصاء لا يشمل إلا الطبعات الكاملة للقانون، أما الطبعات التي تقتصر على قسم أو أكثر فلا حصر لها، وظل يدرس في أوروبا إلى عهد قريب إذ كان من أهم مراجع جامعة مونبلييه حتى العقد الثالث من القرن التاسع عشر Civil, des: Le Bon Arabes، ص 528) وعنى بدراسة طب ابن سينا أخيراً ده كوننج De Koning وليبير Lippert وهرشبرج Hirschperg وغيرهم. أما الفلسفة فهي ميدان انتصاره الخالد، فقد حلت كتبه فيها محل كتب أرسطو عند فلاسفة الأجيال اللاحقة، قال ابن خلدون: "وتجد الماهر منهم عاكفاً على كتاب الشفاء والإشارات والنجاة" (المقدمة، طبعة باريس، جـ3، ص 117). بدأ بتأليف الشفاء إبان وزارته، وأتمه عام 418هـ وكتب النجاة في هذا العام نفسه وهو في طريقه إلى الحرب مع علاء الدولة، ويؤخذ من رواية لحاجي خليفة (جـ6، ص 303 وما بعدها) أن الجوزجاني أتم هذا الكتاب. وكتب الإشارات بعد عام 420. ويجدر بنا أن نقف قليلاً عند آرائه في النفس والإلهيات.

يرتب ابن سينا النفوس ترتيباً تصاعدياً: فيتحدث أولاً عن النفس النباتية ثم الحيوانية ثم الناطقة، وهو يدرس النفس الناطقة من جهات مختلفة. وليس في كلامه عن الحواس شيء جديد غير وصفه الفسيولوجي لمراكز الحواس من المخ وانتقال الصور المحسة في الجهاز العصبي على أحسن ما كان يسمح به علم الحياة في عصره. وأثر جالينوس في هذه الناحية ظاهر. أما آراؤه في العقل فهي تخالف لآراء سلفيه الكندي والفارابي بعض المخالفة: فشيئاً، فالعقل "هيولاني" في بادىء الأمر خال عن كل معقول، ثم يصير "بالملكة" إذا استكمل بالمعقولات الأولى، ثم "بالفعل" إذا حصل شيئاً من العلوم الكسبية، ثم "مستفاداً" إذا كانت تلك العلوم الكسبية حاضرة فيه بالفعل وهو يطالعها بالفعل. والعقل يكتسب العلم بالفكر والحدس. والفكر ؛(Pensée discursive) حركة للنفس الناطقة تبحث بها عن الحدود الوسطى لمطلوب ما حتى إذا ظفرت بها رتبتها في مقدمات قياسية، أما الحدس (Intuition) فهو ظفر بالمطالب وحدودها الوسطى دفعة واحدة. ومن الناس من يكون من أصحاب الفكر وحده، ومنهم من يحدس إلى جانب الفكر، ومنهم من يكون علمه كله حدساً وهؤلاء هم الأنبياء. ويسمى العقل حينئذ عقلاً "قدسياً" هكذا يجعل ابن سينا علم الأنبياء أربع علم على خلاف الفارابي الذي يرى علم الفلاسفة أوثق وأبعد عن الخيال والرمز.

ولا شك أن أرسطو كان يذهب إلى أن المعقولات المستمدة من المحسوسات، وقد أشار ابن سينا في كتابه "التعليقات على كتاب النفس لأرسطو" (مخطوط بالقاهرة، ص69- 70) إلى هذا الرأي، ولكنه نبه غلى أن للمشرقيين رأياً مخالفاً. ونجد رأي المشرقيين هذا مبسوطاً في كل كتبه الأخرى، وهو رأي يدفع بعلم النفس إلى مجاهل الإلهيات، ولكنه يجعل المعرفة العقلية وثيقة مطابقة للماهيات الأزلية التي لا تتغير، ذلك لأنه يذهب إلى أن المعقولات تفيض عن عقل خارج عنا أزلي أبدي انتهت إليه صور الماهيات من مبدع الكل، ذلك العقل هو "العقل الفعال"، وليس البدن وحواسه إلا وسائل تهيء العقل الإنساني لقبول في العقل الفعال. فالمحسوسات شأنها عند ابن سينا ثانوي في المعرفة القعلية (الشفاء، النفس، م5، ف3، ص 352، ف 5، ص 356، النجاة، 297 – 299).

وقد كانت براهين القدماء على لامادية النفس ومباينتها للجسم منطقية، أما ابن سينا فقد كان أول من لجأ إلى التجربة النفسية، قال: لنتصور إنساناً خلق محجوب البصر لا يرى من إهابه شيئاً، متباعد الأطراف لا يلمس جزء من جسمه جزءاً آخر، فهوى في خلاء لا يصدمه فيه قوام الهواء حتى لا يحس ولا يسمع، أليس يغفل مثل هذا الإنسان عن جملة بدنه؟ أليس يشعر بشيء واحد فقط هو ثبوت إنيته (نفسه)؟ فالنفس إذن موجودة وجوداً غير بدني. ونحن نجد مثل هذا البرهان عند ديكارت مما جعل بعض الباحثين – أمثال فالواValios وفورلاني Fourlani – يذهبون إلى إمكان إطلاع ديكارت على آراء الفيلسوف الإسلامي، وقد أثبت فورلاني ( في مقاله Avicenna, Islamica, Il Cogito ergo sum di Cartesio، المجلد 3، ص 53 – 72، ليبسك 1927) أن النصين الواردين في الشفاء عن هذا الموضوع (الشفاء، النفس، م1، ف1، م5، ف 7) كان قد نقلهما إلى اللاتينية الفيلسوف غليوم أوفرني.

أما إلهياته فموضوعها البحث في "الوجود المطلق". ويبدأ ابن سينا إلهياته بتحديد صلة "الوجود" بماهيات الأشياء، فيرى أن هناك من الأشياء ما لا يؤخذ في حده معنى الوجود، كالمثلث مثلاً فأنا تتمثله خطاً وسطحاً ولا تتمثله موجوداً، مثل هذا الشيء وجوده زائد على ماهيته عارض عليها، وهو يحتاج في وجوده إلى علة.

ولما كانت العلل لا يمكن أن تتداعى إلى غير نهاية لامتناع الدور والتسلسل فلا بد من الانتهاء إلى علة أولى بالإطلاق ماهيتها عين وجودها، وهذه العلة لا نستطيع أن نتمثلها معدومة، لأن ماهيتها الوجود نفسه، ولأنها مبدأ كل موجود. هكذا يؤدي التمييز بين ماهية الشيء ووجوده إلى التمييز بين "الممكن" و"الواجب"، إذ الممكن ما يستوى وجوده وعدمه، والواجب هو الضروري الوجود الذي يترتب على عدمه عدم كل موجود، ويقابلهما العالم والله على الترتيب.

ولقد كان العالم عند أرسطو قديماً قدم الله، ومثل هذه الأثنينية لا تتفق مع نزعة المسلم إلى التوحيد، لذلك لما اضطر ابن سينا إلى القول بقدم العالم حتى يجعل أفعال اللع قديمة مثله، رأى أن يجعل الله متقدماً على أفعاله القديمة "بالذات" لا بالزمان، والزمان نفسه – مع أنه قديم – مخلوق أيضاً تقدمه الواجب بالذات لا بزمان آخر.

وقد فاض العالم عن الله بمحض إرادته لا عن حاجة إلى ذلك: فكان عنه أولاً العقل الأول الذي هو ممكن في ذاته واجب بعلته. وهذان الاعتباران في العقل الأول هما بدء حدوث الكثرة في الوجود. وفاض عن العقل الأول بعقله لعلته الواجبة عقل ثان، وبعقله لذاته الواجبة بعلتها نفس الفلك الأول، وبعقله لذاته الممكنة جرم هذا الفلك. وهكذا تستمر الموجودات في التكثر فيصدر عن كل عقل عقل آخر ونفس فلكية وجرم سماوي حتى ينتهي الصدور إلى العقل العاشر وهو "الفعال" في عالمنا هذا. وهو على عكس أرسطو يرى أن القعل الأول – لا الله – هو المحرك الأول.

وإله أرسطو لا يعقل إلا ذاته وهو مشغول بها فما عداها. أما إله ابن سينا فليس يعقل ذاته فقط بل يعقل الماهيات الكلية كما يدرك الجزئيات ولكن من حيث هي كلية فلا يعزب عنه مثقال ذرة. ويرجع إدراكه للجزئيات إلى علمه بعللها ومبادئها كما يرجع إدراك النجومي بكل كسوف جزئي إلى علمه بالحركات السماوية علماً كلياً.

وتحيط عناية الله بكل شيء، ويعرف ابن سينا العناية فيقول: "هي إحاطة علم الأول بالكل وبالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن نظام... فعلم الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منبع لفيضان الخير في الكل". فإذا كان الله خيراً محضاً وأبدع الموجودات على ما يقتضيه الخير فمن أين جاء الشر في هذا العالم؟ يختم ابن سينا إلهياته بنظرية في التفاؤل تقرب من نظرية ليبنتز Leibniz الفيلسوف الألماني. فهو يرى أن الشر إنما يلحق الأشياء التي في طباعها استعداد للتغير والتبدل، فالشر إذن يلازم القوة وبالحرى "المادة". على أن المادة التي هي مصدر الشر طفيفة محدودة لأنها هي هذه المادة العنصرية الموجودة دون فلك القمر. ولا يقف تفاؤل ابن سينا عند حصره الشر في المادة العنصرية دون الفلكية بل يحصره في الأشخاص دون الأنواع، ويذهب إلى أبعد من ذلك فيقول إن الأشخاص لا يصيبهم الشر دائماً بل أحياناً. فالمادة علة الشر والشر محدود محصور. والله لم يقض به إلى بالعرض إذ أنه أراد الخير إرادة أولية. ولم يعبأ بما قد تؤدي إليه المادة من شر ما دام الخير موجوداً.
<center>-----------------
</center>

شارك بالموضوع
  • معلومات
  • الموجودون الآن

    الاعضاء المتصفحين: لا مشتركين و 1 زائر