ثقافة الشرقيين في سفر التكوين

مراقب: Hatem

شارك بالموضوع
Hatem
مشاركات: 520
اشترك: سبتمبر 10th, 2002, 8:50 pm

أكتوبر 3rd, 2002, 4:04 am

<u><center><font size=+3>ثقافة الشرقيين في سفر التكوين
</font></center></u>

كثيرة هي الدراسات التي تناولت أسفار العهد القديم بالدّرس، وخصوصاً منها سفر التكوين الذي يتصدّرها موقعا وأهمية.

لكن الاهتمام في تلك الدّراسات توجّه في الغالب إلى البحث في تحديد بنية السّفر وتاريخ تدوينه وما تضمّنه من قصص التكوين وأخبار الأوّلين. واُرتأينا من جهتنا أن ندرس سفر التكوين (أو جزءاً منه) من جانب آخر قلّما اُنتبه له الدارسون، إنه الجانب الثقافي في هذا السّفر، وجانب الثقافة الشرقية على وجه التّحديد.

ولذلك سننظر في سفر التكوين ههنا باعتباره وثيقة تاريخيّة نحاول من خلالها تحديد البعض من الملامح الثقافية لمنطقة الشرق اُنطلاقاً من شخصية إبراهيم وشخصية لوط كما ظهرتا في سفر التكوين.


<u><font size=+1> 1 ـ إبراهيم وثقافة الشرقيّين
</u></font></font>
تتبوّأ شخصية إبراهيم مكانة مرموقة في منطقة الشرق وثقافته وأديانه.
ويُثبت التاريخ الدّيني وجود علاقات بين إبراهيم وأهل الشّرق طبعت ثقافة المنطقة، وأثّرت فيها كما لم يؤثر فيها أيّ عامل آخر.

وتتّفق النصوص الدينيّة في الأديان الكتابيّة الثلاثة (اليهودية، المسيحيّة والإسلام) على خصوصيّة العلاقة التي تربط بين إبراهيم ومنطقة الشرق، وإن اُختلفت هذه النصوص في تحديد المجالات الجغرافية التي تحركت فيها هذه الشخصيّة .

ويشير سيد محمود القمني إلى الأهميّة الدينيّة التي تحظى بها شخصية إبراهيم في الأديان الكتابية الثلاثة بقوله:
«إنه عند العبريّين أهمّ الآباء الأوائل للشعب العبري، وهو أب لسلسلة من الأبناء كانوا جميعا ذوي علاقة حميمة بالإله... وهو عند المسيحيّين لا يقل رتبة عنه عند اليهود، لأنّ إنجيل متّى يقرّر أن إبراهيم هو الجدّ الأعلى لعيسى المسيح. ولقد أشار السيد المسيح «سلامه علينا» عن الانتماء الإبراهيمي في الإنجيل وهو يحاور اليهود (إنجيل يوحنا 8/31ـ 59) وقد ذكرّهم في هذه المحاورة رؤية إبراهيم له حين قال: «ابتهج أبوكم إبراهيم راضياً أن يرى يومي ورآه ففرح» وهنا يرمز إلى الذبح العظيم الذي قُدم من الله فداءاً لابنه، وكان هذا الذبح رمزاً لذبيحة الله للعالم أجمع ألا وهو عيسى المسيح. وبالتالي فإنّ إبراهيم أب لكل المسيحيّين.». وهكذا ترسّخ في أذهان أهل الكتاب ووجدانهم أنّ إبراهيم هو «جدّهم الأعلى» ورمز عقائدهم الدينيّة.

لكنّ الذي يهمنا في هذا البحث بدرجة أولى هو ما تضمّنته سيرة إبراهيم من عناصر ثقافية نقدّر أنها كانت المرجع في تقاليد الشرقيّين وعاداتهم وثقافاتهم. ونبدأ أولا بالنظر في الصّفات التي وُصف بها إبراهيم في سفر التكوين.

جاء في الإصحاح 14 أنّه كان زعيماً له «غلمان متمرّنون» على القتال (14:14) ، وكان يقودهم بنفسه في الحروب بمهارة وشجاعة (14:15) وذلك لنصرة بني قومه (14: 13 - 16) .
ومن شيمه التي يذكرها سفر التكوين: الوفاء بالعهد، إذ كان يحرص على إرضاء حلفائه، ويحافظ على مصالحهم (14: 13 ـ 24) ، وكذلك الشّهامة والحلم إذ كان يقتحم المخاطر، ويعفو عند المقدرة (14:24) . إنّ دارس سفر التكوين لا يعدم المقاطع التي تتضمّن مواقف من سيرة إبراهيم تؤكد الصّفات السّابقة، وتبرزها في مواقف كثيرة من حياته. من ذلك ما ورد في الإصحاح 13 (5ـ12) الذي يفيد أنّ إبراهيم واُبن أخيه لوط كانا يعيشان متجاورين في مكان واحد ووقت واحد، ولمّا جَدّ خصام بين رعاة مواشيهما اُتفقا على الافتراق. وتظهر شخصية إبراهيم في هذا المقطع بكامل الشّهامة والحلم والإيثار، وذلك حين يبادر إبراهيم باُقتراح الجلاء المشترك عن مكان الإقامة تحاشياً للخصام بين الرّعاة، وحن يترك بعد ذلك الخيار لابن أخيه لوط في اُختيار المكان الذي سيرتحل إليه ويقيم فيه.

لا شك في أنّ هذه الصّفات التي جاءت مقترنة بإبراهيم في سفر التكوين هي صفات تميّز الشخصيّة الشرقية بوجه عام، فالشهامة والشجاعة والحِلم والإيثار والتكافل العائلي كلها صفات تُعدّ من الخصال الحميدة التي يقتضيها العرف في البيئة الشرقية، حتّى تكاد تتحوّل فيها هذه الصّفات إلى طبائع وسجايا. والذي يدلّ على «الخصوصيّة الشرقيّة» لتلك الصّفات هو صعوبة ترجمتها إلى لغة غير سامية (أي غير شرقية) ، وهذا ما أشار إليه المستشرق لويس غرديه حين حاول شرح صفة «الحِلم» للقارئ الغربي: تارة بالإشارة إلى معنى الكبرياء والإحساس بالكرامة، وتّارة بقوله: «الحلم هو قوّة البدوي النفسيّة» وذلك قبل أن يعترف في النهاية بصعوبة ترجمة هذه العبارة ترجمة دقيقة إلى لسان أوروبي .
أما اُقتران تلك الصّفات الشرقية بشخصية إبراهيم في النّص التوراتي فقد أضاف إلى قيمتها الاجتماعية قيمة دينيّة وأخلاقية وذلك بحكم السّلطة التي ما اُنفك يمارسها الأنموذج الإبراهيمي في خيال الشّرقيين ووجدانهم.

وتتجلّى أهمية هذه العلاقة بين إبراهيم والأعراف الاجتماعية في منطقة الشرق القديم في عناصر ثقافية أخرى لعل أبرزها عنصر الضيافة والكرم. من المعلوم أنّ الضيافة عند الشرقيين ليست مجرّد عرف أو عادة أو تقليد كغيره من التقاليد، بل إنها ترتقي لديهم إلى مقام «الواجب الاجتماعي المقدّس».

ويعلّل لويس غرديه الطّبع القدسي للضّيف لدى العرب باُرتباط ذلك «بالشروط الأوّلية للحياة البدويّة» التي تضع الإنسان في أحيان كثيرة وحيداً في «أرض بلا طريق أو ماء» .

والعلاقة بين الضيافة وإبراهيم حميمة في النّصوص الدينيّة الكتابية، فلقد وردت في سفر التكوين (الإصحاح 18) وفي القرآن الكريم [الحجر 15/51ـ53 والذاريات 51/24 ـ 30] ، حتّى شاع لدى الكثير من المؤمنين «أنّ إبراهيم كان أوّل من قدّم ضيافة» .

جاءت قصّة ضيوف إبراهيم في سفر التكوين على النحو التالي:
«وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت احتداد النّهار. فرفع عينيه ونظر، فإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلمّا نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض، وقال يا سيّد إن كنتُ قد وجدتُ نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك، ليؤخذ قليل ماء واُغسلوا أرجلكم واُتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسدون قلوبكم ثمّ تجتازون، لأنكم قد مررتم على عبدكم، فقالوا هكذا تفعل كما تكلمت، فأسرع إبراهيم إلى الخيمة، إلى سارة وقال أسرعي بثلاث كيلات دقيقاً سميداً، اُعجني واُصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلاً رخصاً وجيّداً وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله، ثمّ أخذ زبداً ولبناً والعجل الذي عمله ووضعها قدّامهم، وإذ كان هو واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا» (سفر التكوين 18: 81) .

تتضمن هذه الرّواية التوراتية عناصر أساسيّة تعكس أهميّة الضيافة في البيئة الشرقية من أهمّها:
* الحركية التي أحدثها قدوم الضيوف إلى بيت إبراهيم الذي تحوّل بيته في طرفة عين من بيت كان يخيّم عليه السكون والهدوء والاسترخاء (كان إبراهيم جالساً في باب الخيمة واُمرأته في داخلها) إلى بيت أصبح يعج بالحركة:
ـ يستقبل ضيوفه «ركضاً».
ـ يعود إلى الخيمة «مسرعاً» ليخبر زوجته «بالحدث السعيد».
ـ يأمرها «بالإسراع» في إعداد الطعام.
ـ «يركض» إلى البقر ليأخذ عجلا... وغلامه «يسرع» في ذبحه وطهيه وإعداده.

*طريقة اُستقبال إبراهيم ضيوفه:
وهي طريقة تكشف عمّا يستشعره الرجل الشرقي إزاء ضيوفه من مشاعر الاحترام والتبجيل والتعظيم والإيثار والتواضع، إلى حدّ تتحوّل فيه الضيّافة من مرتبة الواجب الاجتماعي إلى مرتبة الطقس الديني.
يدلّ على ذلك ما جاء في النص من مواقف مثل:
ـ سجوده إلى الأرض عند اُستقبال ضيوفه .
ـ إسراعه في خدمة ضيوفه وكأنه خادم أمام سيّده («يا سيّد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك») .
ـ وقوفه في تواضع إلى جانبهم وهم يأكلون.

*أمّا قصة ضيوف إبراهيم في النص القرآني فقد جاءت على النحو التالي:
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ {24} إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ {25} فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ {26} فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ {27} فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ{28}} [الذاريات 51/24 ـ28] .
والمقارنة البسيطة بين النص التوراتي والنّص القرآني تفيد اتفاق النّصين على قصة الضيافة الإبراهيميّة وعلى الخطوط العريضة «لطقوسها»، لكنّها ـ في المقابل ـ توقفنا على اختلافات بسيطة بينهما لا تمسّ في شيء من جوهر الموضوع المتمثل في أهمية الضيافة في ثقافة الشرقيّين باُعتبارها واجباً اجتماعيّاً مقدساً اُقترن ـ في النصوص الدينيّة ـ بشخصيّة إبراهيم أوّلاً ثمّ بشخصيات دينيّة أخرى لعلّ من أهمّها شخصية لوط.

<u><font size=+1>2 ـ لوط بين واجب الضيافة وفضيلة الشّرف.
</u></font></font>
نفهم من الرواية السابقة التي تضمنها سفر التكوين (الإصحاح 18) أنّ الضيوف الثلاثة كانوا في الحقيقة ثلاثة ملائكة (أو مَلَكين مع الرب) ، وأنهم تمثلوا لإبراهيم في هيئة ثلاثة رجال، وأنّهم انقسموا بعد نهاية الضيافة إلى قسميْن: قسم أول مثّله كبيرهم الذي بقي مع إبراهيم، وقسم ثان مثّله المَلكان اللذان ذهبا إلى سدوم حيث يعيش لوط مع قومه.

وعند وصولهما يهرع لوط لاستقبالهما بطريقة تذكّرنا بتلك التي استقبل بها إبراهيم ضيوفه، إذْ يستعيد لوط «الطقوس» ذاتها التي مرّت بنا في تجربة إبراهيم مثل: السّجود والتّواضع والإسراع في خدمة الضيوف وغير ذلك...

يقول النص:
«فجاء المَلاَكَان إلى سَدُوم، وكان لوط جَالِساً في بَاب سَدُوم، فَلَمَّا رَآهُمَا لوطّ قامَ لاسْتِقبَالِهمَا، وسَجَدَ لِوَجْهِهِ إلى الأَرْض، وَقَالَ يَا سَيّدِيَّ مِيلاَ إلى بَيْتِ عَبْدِكُمَا وَبِيتَا فاُغْسِلاَ أرْجُلَكُمَا ثُمَّ تُبَكِرّان وَتَذْهَبَان في طَرِيقِكُمَا، فَقَالاَ: لاَ بَل في السَّاحَةِ نبيتُ، فَألَحَّ عَلَيْهِمَا جداً، فَمَالاَ إلَيْهِ ودَخَلاَ بَيْتَه، فَصَنَعَ لَهُمَا ضِيَافَةً وَخَبَزَ فَطيراً فأكلا» (التكوين 19:1 ـ 3) .

ولا يحتاج الأمر ههنا إلى بيان نقاط الالتقاء بين تجربة لوط وتجربة عمّه إبراهيم من قبله في أمر الضيافة ومكانتها ومستلزماتها.

إلاّ أنّ ما يستوقف النّاظر في تجربة لوط حقيقةً هو ما جاء بعد ذلك في الرّواية التوراتية من عناصر جديدة يجدر التوقف عندها.

تقول الرواية:
«وَقَبْلَمَا اُضْطَجَعَا (المَلاَكان) أَحَاطَ بِالبَيْتِ رِجَالُ المَدِينَةِ رِجَالُ سَدُومَ مِنَ الحَدَثِ إلى الشَّيْخِ كُلُّ الشَّعْبِ من أَقْصَاهَا، فَنَادَوْا لُوطاً وَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ الرَّجُلاَنِ اللّذَانِ دَخَلاَ إلَيْكَ اللّيْلَةَ، أخْرجْهُمَا إلَيْنَا لِنَعْرِفَهُمَا، فَخَرجَ إلَيْهمْ لُوط إلى البَابِ وأغْلَقَ البَابَ وَراءَهُ، وقال: لاَ تَفْعَلُوا شَرّاً يَا إخْوَتِي، هُوذا لي اُبْنَتَانِ لَمْ تَعْرِفَا رَجُلاً، أخْرجُهمَا إلَيْكُمْ فَاُفْعَلُو بهما كمَا يَحْسُنُ في عُيُونكُمْ، وَأمَّا هذانِ الرَّجُلاَنِ فَلاَ تَفْعَلُوا بِهِمَا شيْئاً لإِنهُمَا قَدْ دَخَلاَ تَحْتَ ظِلِ سَقْفِي» (التكوين 19: 4 8) .

نفهم من هذا النّص أنّ الضيافة في تجربة لوط قيمة تبلغ درجة من القداسة تفوق قيمة الشرف والعرض، ويدلّ على ذلك أنّ لوطا كان مستعدّا للتضحية بقيمة العرض في سبيل المحافظة على قيمة الضيافة وهنا يطرح السّؤال الذي لا مفرّ منه:
أيّ القيمتين أرفع وأوْلَى في ثقافة الشّرقيين: الضيافة أم الشرف؟
يبدو أن الجواب عن هذا السؤال لن يكون سهلاً، لأنه يتطلب معرفة واسعة في ثقافات الشرق القديم وتقاليده.

ومن جهتنا سنحاول توسيع مجال البحث في هذه المسألة بالنّظر فيها من زاوية أخرى، وذلك من خلال نصّ ديني آخر له صلة بالثقافة الشرقية، هو النصّ القرآني الذي وثّق هو الآخر تجربة لوط مع ضيفه.

جاء في سورة هود: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ {77} وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ {78} قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود 11/77 ـ 79] نلاحظ ـ بدءًا ـ أن الرواية القرآنية تتضمّن ـ تقريباً ـ العناصر نفسها التي تضمّنتها الرواية التوراتية وهو ما يجعلها كذلك في مواجهة ذلك السّؤال الذي طرحناه من قبل: أيّ القيمتيْن أوْلى في عرف الرجل الشرقي: الضيّافة أم الشرف؟
يبدو أنّ المفسّرين المسلمين قد حلّوا هذا الإشكال متوسّلين كعادتهم بآليّة التأويل:
ـ فلقد فسّر الزمخشري (1075ـ1144) ما جاء في النّص القرآني على لسان لوط «هؤلاء بناتي» بكون لوط أراد أن يقي ضيوفه ببناته وفي ذلك غاية الكرم والتبجيل، وأراد بقوله ذاك أن «هؤلاء بناتي فتزوّجوهن» .

واُستدلّ على ما ذهب إليه بجواز تزويج المسلمات من الكفار في العهد النّبوي .

كما يجوّز الزمخشري أن يكون لوط قد عرض بناته على قومه «مبالغة منه في تواضعه لهم وإظهاراً لشدة اُمتعاضه ممّا أوردوا عليه طمعا في أن يستحيوا منه ويرقّوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه» .
ـ أمّا المفسّر ابن كثير (1300 ـ 1372م) فإنّه يذهب إلى تأويل كلمة «بناتي» بـ «نسائكم» ، ويصبح ـ تبعاً لذلك ـ قول لوط يعني أنّ لوطا يرشد قومه إلى نسائهم.
ويستدّل ابن كثير على صحّة هذا التأويل بدليليْن قرآنيين:
ـ الأوّل: ما جاء على لسان لوط في سورة الشعراء (الآية 165 والآية 166) حين توجّه إلى قومه قائلا: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ {165} وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ {166}
ـ الثاني ما جاء في سورة الأحزاب حيث يقدَّم النّبي باُعتباره أباً لأمتّه وقومه فتكون نساؤهم بمثابة بنات له {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا {6}} [الأحزاب 33/6] .
وحاصل ذلك أن المفسّرين المسلمين ذهبوا إلى أنّ لُوطاً عرض على قومه النّساء (من بناته أو بناتهم) عرض نكاح لا عرض سفاح، وبذلك لم يكن حلّ الإشكال الذي طرحته النّصوص الدّينيّة قائماً ـ عندهم ـ على أساس المفاضلة بين قيمتيْ الشرف والضيَافة، بل كان الحلّ بالمحافظة على الفضيلتَيْن معاً باُعتبارهما قانونيْن مقدّسيْن لدى الشرقيين.

ولا نحسب أنّ هذا الحلّ مناسب بالنسبة إلى النّص التوراتي وذلك بسبب صعوبة تأويله على النحو السابق.

من ذلك أنّ عرض لوط في هذا النص صيغ في عبارات يعسر معها إخراجها في معناها الظاهر، وذلك مثل قول لوط: «هُوذَا لي اُبْنَتَانِ لَمْ تَعْرِفَا رَجُلاً أُخْرِجُهُمَا إلَيْكُمْ فاُفْعَلُوا بِهِمَا كَمَا يَحْسُنُ في عُيُونِكُمْ» (التكوين 19:8) .

ويفيد النص أن لوطا يتحدّث عن بنتيْن (صبيّتيْن) لم يمسسهما رجل من قبل، وأنّه ينسبهما إليه تحديداً (لي اُبنتان) ، وأنهما كانتا في داخل بيته حين كان يخاطب قومه، وغير ذلك من التحديدات التي لا تترك مجالاً للتأويل.

ويصبح في هذه الحال لا مناص من الاحتفاظ بالمعنى الظاهر للنص التوراتي مع ما يترتّب عن ذلك من نتائج خطيرة تتّصل بموقف لوط الحائر بين واجب الضيافة وفضيلة الشرف في بيئة شرقية، وبالحلّ الذي انتهى إليه من خلال الحسم في الأمر بالتضحية بقانون الفضيلة لفائدة الواجب الاجتماعي المقدّس (الضيافة) .

إنّ هذا الموقف لا يُفهم ـ حسب رأينا ـ إلّا في إطار التّصّورات الدينيّة اليهوديّة وملابسات التاريخ اليهودي كما جاءت في الكتاب المقدّس، إذ تتبوّأ الضيافة في هذا الكتاب مقاما دينيّا مرموقا، ـ عُدَّتْ ـ بمقتضاه ـ من الأحكام الدينيّة، واُعتبرها قاموس الكتاب المقدّس «فضيلة من فضائل الديانة» التي أمر بها الربّ.

وتعود الأهميّة الدينيّة للضيافة في العهد القديم إلى تاريخ الشعب اليهودي، فصورة الضّيف الباحث عن مأوى وملجأ وحماية تذكِّر الشعب الإسرائيلي بوضعيّات تاريخيّة سابقة كان فيها هذا الشعب غريباً بين الأمم ومستعبدا فيها.

وجاء في سفر لاويين قول الرب: «وَإذَا نَزَلَ عِنْدَكَ غَرِيبٌ في أرْضِكُمْ فَلاَ تَظْلِمُوهُ، كَالوَطَنِيّ منْكُمْ يَكُونُ لَكُمْ الغَرِيبُ النَّازِلُ عِنْدَكُمْ وتُحِبُّهُ كَنَفْسِكَ لأنَكُمّ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ في أرضِ مِصْرَ» (19 33و37) .

ولذلك كان من الواجبات الدينيّة في الأحكام اليهودية أن يُسْتَقْبَل الضّيف بكل تبجيل واُحترام، وأن يُبذل في سبيل حمايته كلُ جهد، وأن تُقدَّم من أجل سلامته كل تضحية مهما عظمت.

ولتأكيد «أحكام الضيافة» في الدّيانة اليهودية عمد كتبة الأسفار المقدّسة إلى تعضيدها بقصص ومواقف من سيرة الآباء والأنبياءوالصّالحين، وهي قصص ومواقف تبرز الضيافة باُعتبارها واجباً اجتماعياً وفضيلة دينيّة لا يجوز التهاون في شأنها.

ولعلّ الأولوية التي كانت للضيافة على حساب الشّرف في النص التوراتي السابق تدخل في سياق بيان هذا المعنى. يدّل على ذلك ما وقفنا عليه في تجربة لوط السابقة، وفي روايات أخرى تضمّنها العهد القديم مثل قصة الشّيخ الصالح الذي ضيّف رجلاً لاويّا، ولمّا بلغ ذلك مسامع البنْياميّين أحاطوا ببيت الشيخ طالبين منه إخراج الضيف، فرفض ذلك قائلاً لهم: «لاَ يَا إخْوَتِي، لاَ تَفْعَلُوا شَرَاً بَعْدَمَا دَخَلَ هَذَا الرّجُلُ بَيْتِي، لاَ تَفْعَلُوا هَذه القَبَاحَةَ، هُوذا اُبْنَتي العَذْرَاءَ وَسُرِّيَتَهُ دَعُوني ـ أُخْرِجُهُمَا فَأَذِلُّوهُمَا، وَاُفْعَلُوا بِهِمَا مَا يَحْسُنُ في أعْيُنِكُمْ، وَأمَّا هَذَا الرَّجُلُ فَلاَ تَعْمَلُوا بِهِ هَذَا الأَمْرَ القَبيحَ». (القضاة 19:22 ـ 24) .

وما أشبه جواب هذا الرّجل الشيخ بجواب لوط الذي سبق أن توقفنا عنده في سفر التكوين (19:8) ، إذ يؤكد ـ مثل سابقه ـ حكم الضيافة في اليهوديّة.

وقد شهد هذا الحكم في المسيحيّة تطوّراً آخر إذ جعل المسيح الضيافة شهادة على حسن الإيمان، واُعتبر حضور الضّيف بمثابة حضور المسيح نفسه (متّى 25:34 ـ40) ذلك هو حكم الضيافة في الكتاب المقدّس وذلك هو السياق الذي تُفهم في إطاره المقابلة بين الضيافة والشّرف. وإذا ثبت من خلال النصوص التّوراتية والأعراف الشرقية أنّ الضّيافة قيمة دينيّة فضلاً عن كونها قيمة أجتماعيّة، فإنّه لا يعرف على وجه التحقيق ما إذا كان الأمر كذلك بالنّسبة إلى قيمة الشّرف والعرض، هذا على الأقل ما يُوحي به ظاهر نصوص العهد القديم، وهو كذلك مع بعض الباحثين العرب المعاصرين مثل هشام جعيط الذي يقول: «إننا لا نعرف أبداً فيما إذا كانت قيم العرض والشّرف الخاصّة بالمرأة ناتجة عن الإسلام أو عن العروبة البدويّة القديمة أو عن تلاقي كلتا الأخلاقيتيْن، فإذا كان العرب قبل الإسلام وبعده حريصين جدّاً على هذه النّقطة فإننا نعلم أنّ القرشيين لم يقبلوا في البداية بمنع الزنا مثلاً»

أمّا طيّب تيزيني فإنّه يذهب إلى تغيّر مدلول العرض لدى العرب، فهو تارة يكتسب مدلولاً أخلاقياً أو إجتماعياً على المرء أن يصونه ويدافع عنه بكلّ الأسلحة ، وتارة أخرى يكتسب العرض (مُمَثّلا في المرأة) مدلولا إخْصَابِيّاً وفق الذهنية الأسطوريّة عند العرب، فلقد كانت هذه الذهنية تجيز «التّضحية بالبنات» سواء بتقديمهن هباتٍ للآلهة أو لسيّد القبيلة أو قرابين للآلهة . فهل تكون هذه الذّهنيّة الشّرقيّة الأسطورية التي جوّزت التضحية بالبنات هي التي يُفهم في إطارها جواز التّضحية بعرضهّن حفاظاً على قداسة الضيّافة؟

ومهما يكن من أمر فإن دراسة سفر التّكوين تسمح بإثارة هذه القضيّة من جهة، وبالوقوف على النتّائج التالية:

ـ أهمّية النّص التوراتي باُعتباره مصدراً هاماً من مصادر ثقافة الشّرق القديم، لِمَا تضمّنه هذا النّص من عَرض للعادات والتقاليد والتصّورات الدينيّة والاجتماعيّة التي تعكس إلى حدّ كبير الذهنية الشرقية آنذاك.

ـ أهمية الدور الذي أدّته الشخصيات الدينيّة الكبيرة (مثل إبراهيم ولوط) ثمّ الأسباط والقبائل العبرانيّة بعد ذلك في استلهام التراث الثقافي لمنقطة الشرق ثمّ تخزينه ونشره بحكم حركة الارتحال والهجرة بين المراكز الحضاريّة القديمة الأكثر تمثّلاً لثقافة الشّرق (مثل مصر والشام وكنعان وآشور وبابل...) .

وقد أطلق بعض الباحثين على هذا الدوّر مصطلح: «الحمل الثقافي» أو «الحمل التاريخي» .
ـ قيمة الدّلالة الثقافية لشخصيّة إبراهيم في منطقة الشّرق، إذ تَبَيَّنَ أنّ البحث في سيرة إبراهيم هو ـ في معنى من المعاني ـ بحث في تراث الشرقيين وثقافتهم. ويغلب على الظّن أنّ ذلك عائد إلى السّلطة المرجعيّة التي تمثّلها شخصيّة إبراهيم في أديان الشرق وثقافته وفي مخيال الشرقيين ووجدانهم.

ـ متَانة العلاقة القائمة بين الأديان الكتابيّة الثلاثة وثقافة الشرقيين، هذه الثقافة التي يسود في أذهان الغربييّن أنّها مصدر البدع والخرافات، والحال أنّها الأصل في ثقافة الغرب والمهد الذي حَضَن المسيحيّة قبل أنْ تتغرّب.

<center>الأستاذ/ أحمد مشرقي.
</center></font>
<center>
==================
</center>
<FORM METHOD=POST ACTION="http://www.ushaaqallah.com/ubbthreads// ... hp"><INPUT TYPE=HIDDEN NAME="pollname" VALUE="1033617853Hatem">
<p>قيم هذا الموضوع.
<input type="radio" name="option" value="1" />ممتاز.
<input type="radio" name="option" value="2" />جيد جداً.
<input type="radio" name="option" value="3" />جيد.
<input type="radio" name="option" value="4" />مقبول.
<input type="radio" name="option" value="5" />غير مفيد.
<INPUT TYPE=Submit NAME=Submit VALUE="أرسل رأيك" class="buttons"></form>

شارك بالموضوع
  • معلومات
  • الموجودون الآن

    الاعضاء المتصفحين: لا مشتركين و 1 زائر