الإنسان ذاتٌ ناطقة واعية، مركّب فريد، نَفْسٌ وجَسَدٌ على صورة الله كشبهه (تك 1: 26). جسدُه من تراب الأرض ونَفْسُه نَسَمَةُ حياة نفخها الله فيه وفق القول الكتابي: "وجَبَل الربّ الإله آدم تراباً من الأرض ونَفَخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نَفْساً حيّة" (تك 2: 7). جمع الربّ فيه المنظور وغير المنظور، المادي وغير المادي. أتاح له أن يتعاطى الماديات وأن يكون له، إلى ذلك، إمكان الوصال بالله وملائكته والشيطان وزبانيته. ولكن ما معنى أن يكون الإنسان "على صورة الله كشبهه؟" عند الفلاسفة الإغريق، ومَن نحا نحوهم، الصورة هي في أنّ للإنسان عقلاً كشبه الله. هذا لم يكن لا فكر الكتاب المقدّس ولا فكر الآباء الأوّلين في الكنيسة. القدّيس يوستينوس الشهيد وتاتيانوس والقدّيس إيريناوس اللّيوني وأمثالهم قالوا إنّ الكلام على الصورة كشبه الله يطال الإنسان كلّه نَفْساً وجسداً (القدّيس إيريناوس) وأنّ الجسد هو مسكن النفس فيما النفس هي مسكن الروح القدس (القدّيس يوستينوس). وواضح لديهم أنّ ما يجعل النفس والجسد على صورة الله كشبهه ليست طبيعة تكوينهما أصلاً بل سكنى الروح القدس فيهما. تاتيانوس يقولها صراحة: "صورة الله كشبهه هي الروح القدس". على هذا بالسقوط ضيَّع الإنسان صورة الله كشبهه، لما تحوَّل من محبّة الله إلى محبّة ذاته، فغادر، نتيجة ذلك، عدم الفساد إلى الفساد والحياة إلى الموت.
وإذ اختلّ الإنسان كلّه واعتوره الفساد التُعنتْ الأرض (تك 3: 7) ليكون له مدى يقيم فيه على شاكلة معطوبيّته. من ثَمَّ أخذ يستبين ما لا قِبْلَ للخليقة به: الإثم يعبِّر عن ذاته مادياً! هذه خاصية لا يعرفها الشيطان، أبو المآثم. وحده الإنسان خَبِرَها في السقوط. هذا أضحى مجاله الفذّ، بامتياز. تآلَفَ الإثمُ والمادةُ حتى تعذّر على الإنسان أن يميِّز ما بينهما، ناهيك عن فصل أحدهما عن الآخر. هذا، بخاصة، لأنّ الإثم انبثّ في النفْس وإليه صار اشتياقها (تك 4: 6). فلمّا ازدهرت أنشطة الناس وتشعّبت وتنامت خبرات البشريّة، نما الإثم وتغلغل وامتدّ وتعقّد حضوره وفعله فيها. أخذ الإنسان يبتدع للإثم، تلقائياً، ما لا حدّ له من التعابير الفكرية والشعورية والمادية. صار الإثم عالَماً له جمالاته المزعومة وخِلابتُه، وصار له تراث. لم يعد السقوط مسألة خلل في الطبيعة البشريّة وميل إلى المآثم ومناخ داخلي وحسب بل صار مناخاً خارجياً أيضاً وإطاراً وفكراً ونَفَساً ومؤسّسات وأنظمةً سياسيةً واجتماعيةً وتربويةً واقتصاديةً ينشأ فيها الإنسان وتتفتّح لديه قابلياتُ الإثمِ الكامنةُ في نفسه، المنبثّةُ في عقله وخلاياه، وكأنّها صنو طبيعته، أو قل، بالحري، كأنّها، في وجدانه الآثم، نفحةُ الطبيعة التي خلقه الربّ الإله عليها. هذا هو عالَم الإثم الذي بلوَرَه تاريخ البشريّة وأخرجه، فلسفةً وفكراً وعِلماً وأدباً وفنّاً، حتى إلى حيِّز العبادة ولسان حاله: "هذه آلهتِك يا إسرائيل..." (خر 32: 8). هذا بالضبط هو العالَم الذي قال فيه يعقوب في رسالته: "محبّة العالَم عداوة لله. فمَن أراد أن يكون محبّاً للعالَم قد صار عدوّاً لله" (يع 4: 4). هذا، بالضبط، هو العالَم الذي قال فيه بولس المصطفى لأهل كورنثوس: "ونحن لم نأخذ روح العالَم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله" (1 كو 2: 12). وهذا، بالضبط، هو العالَم التي لم تنزل حكمته من فوق "بل هي أرضية نفسانية شيطانية" (يع 3: 15).
كل هذا كثّف الإثم في النفس وكرَّس وعمَّق التواطؤ الكياني بين الإنسان والشيطان على الله حتى لاح، في الأفق، خطر بروز إنسان – شيطان، على حدّ تعبير القدّيس يوستينوس بوبوفيتش. إذ ذاك تجسّد ابن الله. ظهر الإلهُ – الإنسان، يسوعُ، مخلِّصاً من الخطيئة والإثم والموت والشيطان. هذا حصل في ملء الزمن الذي تحدّثت عنه الرسالة إلى غلاطية حين "أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة... لننال التبنّي" (غلا 4: 4 – 5).
قبل ذلك كان الربّ الإله يعمل في كل أمّة وله شهوده. وقد اصطفى إسرائيلَ محطاً، ابناً ومذيعاً لألطافه. فقد "كلّم الآباءَ بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة" (عب 1: 1). لكنْ كان الأطباءُ الأنبياء يشكون أبداً عجزهم عن وقف التدهور وتفشّي داء الإثم بتواتر. فرفع ميخا الصوت أن قد "هلك الصفيّ من الأرض وليس في البشر مستقيم" (7: 2). وصدح هوشعُ بالويل أن "اللعنة والكذب والقتل والسرقة والفسق قد فاضت، والدماء تلحق بالدماء" (4: 2). وفضح مرنّم المزامير أعمال مَن قد "ذبحوا بنيهم وبناتهم للشياطين" (مز 105: 37). "جُرْحُ البشريّة"، بكلام القدّيس كيرلّس الأورشليمي، "كان بليغاً... طِبُّنا استبان عاجزاً عن شفاء هذه الجراح". لذلك تردّد في القدّيس كيرلّس صدى ما نطقتْ به الأنبياء أن "فيما عداكَ لا يستطيع أحد أن يعالج الشرّ". وقالت الأنبياء إنّه "يأتي بغتة إلى هيكله السيّدُ الذي تطلبونه... ومَن يحمل يوم مجيئه ومَن يثبت عند ظهوره، لأنّه مثلُ نار الممحِّص ومثل أشنان القصّار" (ملا 3: 1 – 2).
الخلاص، منذ السقوط، ومن قَبل السقوط، أي منذ الخلْق، كان يجري قُدُماً. من قَبل السقوط تمثّل الخلاص في السير في درب الكمال من حيث إنّ الربّ الإله أراد الإنسان، بدءاً، أن يكون كاملاً كما الآب نفسه كامل (مت 5: 48). المرتجى كان أن يصل كل أحدٍ إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح (أف 4: 13).
ليس أنّه كان لا بدّ للإنسان من أن يسقط لكي يتسنّى له أن يبلغ قامة ملء المسيح بل كان لا بدّ لابن الله أن يتجسّد، سواء سقط الإنسان أم لم يسقط، لأنّ "تجسّد الكلمة"، بتعبير القدّيس مكسيموس المعترف، "هو الهدف الرئيس من تدبير الله للعالم" (أسئلة إلى ثلاسيوس). القصد والمبلغ كان، للإنسان، أن يتألّه بسكنى روح الله فيه، بالنعمة غير المخلوقة. هذه كانت قِبلةَ الكمال المرتجى. أما الخلاص، بعد السقوط، فتمثّل في التحرّر من الخوف من الموت واستبداد الأهواء، وربقة الشيطان، من خلال حفظ الوصيّة والسلوك في الفضيلة وتعاطي القدسات، إيماناً بابن الله، ووصولاً إلى الاستنارة والمعاينة واللاهوت.
كل ذلك ما كان ليكون لو لم يكن الكلمة قد تجسّد.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الى سنين عديدة ومباركة ياسيد
البشريّة المريضة بيت الداء وحقيقة الدواء(5)
مراقب: ELIYA ALGHYOR
-
- معلومات
-
الموجودون الآن
الاعضاء المتصفحين: لا مشتركين و 1 زائر