المسيحيون العرب ليسوا أغراباً عن المجتمع الإسلامي في بلادهم، و ذلك المجتمع الذي اشتركوا في تاريخه و اسهموا في حضارته و مدنيته منذ أربعة عشر قرناً دون انقطاع حتى يومنا هذا. و كان اسهامهم بارزاً عبر التاريخ، و حائزاً على ثقة إخوتهم المسلمين الذين كثيراً ما كلفوهم بالتكلم باسم الجميع في التعامل مع الخارج.
و لا يزال للمسيحيين بمختلف كنائسهم وجود ملحوظ في العالم العربي في فلسطين والأردن، و جمهورية مصر العربية و لبنان و سوريا و العراق.
و لا يوجد مسيحيون محليون في الجزيرة العربية، و لا في البلدان الإفريقية إلى الغرب من جمهورية مصر العربية، إذ أن جميع المسيحيين في المناطق المذكورة من المغتربين العرب و الأجانب، و هناك فئة كبيرة من المسيحيين المحليين في السودان و أثيوبيا، و لكنها ليست من أصل عربي بل من أصل إفريقي، و هي محصورة في أغلبيتها في الأجزاء الجنوبية من القارة الإفريقية. و الإحصاءات لأعداد المسيحيين في الأقطار العربية اليوم متفاوتة، و لعل الرقم التقديري لمجموع المسيحيين في البلاد هو عشرة ملايين نسمة، في جمهورية مصر العربية سبعة ملايين، و في لبنان مليونان، و في سوريا نصف مليون و في فلسطين و الأردن و إسرائيل نصف مليون و نيف.
أما توزيع المسيحيين العرب بالنسبة لكنائسهم فتقديره قد لا يكون موضع إعتماد، لأن أرقامه مستمدة من سجلات كنيسة معظمها غير كامل و مفتقر إلى الدقة.
و على كل حال فإن أكبر الطوائف المسيحية في البلاد العربية هم الأٌقباط الأرثوذكس في جمهورية مصر العربية، و يحتل الروم الأرثوذكس المرتبة الثانية إذ مجموعهم في مختلف البلدان العربية لا يتعدى المليون و أكثرهم موجودون في سوريا.
و يحتل الموارنة و الأكثرية الساحقة منهم في لبنان المرتبة الثالثة مع فارق ضئيل بينهم و بين الروم الأرثوذكس.
أما الطوائف المسيحية الأخرى فأكبرها طائفة الأرمن الغريغوريين الأرثوذكس، و هم الأكثرية الساحقة بين الأرمن و الأرمن الكاثوليك و البروتسانت، و يبلغ عدد الأرمن في البلاد العربية نحو أربعمائة ألف نسمة و أكثر من نصفهم في لبنان، كما يتساوى الروم الكاثوليك مع مجموع الطوائف الأرمنية في العدد وأكثر من نصفهم لبنانيون.
و أما غير الروم الكاثوليك من الطوائف الإتحادية فليس بينهم طائفة ذات أعداد تتجاوز المئة الف، ما عدا الكلدان إذ يبلغ عددهم مليون نسمة و معظمهم في العراق.
أما الطائفة الآشورية الأرثوذكسية في العراق و خارجه فلا يتجاوز عدد أفرادها خمسين الفاً.
أما الطائفة السريانية الأرثوذكسية فمنتشرة في العراق، و سوريا، و لبنان و فلسطين و الأردن، و يتراوح عددها بين مئتى الف و ثلاثمائة الف نسمة، و لغاتهم هي اللغة القديمة التي تكلم بها السيد المسيح عليه السلام.
و طائفة اللاتين العرب تمارس طقوس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، و رهبانية الفرنسيسكان تشرف على شؤونهم الروحية، و للاتين وجود في فلسطين و الأردن و إسرائيل.
و هناك البروتستانت الإنجيليون العرب من لوثريين و أسقفين، فهم ماية و ثلاثون ألفاً في جمهورية مصر العربية، و خمسة و عشرون ألفاً في لبنان و خمسون ألفاً في فلسطين و الأردن.
و في القدس الشرقية ثلاثة بطاركة، و أقدمهم بطريرك الروم الأرثوذكس و الأرمن الأرثوذكس و اللاتين و حراسة الأراضي المقدسة للفرنسيسكان، و في القدس أيضاً نيابة بطريركية للروم الكاثوليك، و السريان الأرثوذكس و الموارنة، و الكنيسة الآثيوبية الحبشية الأرثوذكسية و كذلك رئاسة الكنيسة البروتسانتية اللوثرية و الأسقفية.
و هذه الأعداد الضئيلة نسبياً للمسيحيين في العالم العربي المعاصر لا تعادل إطلاقاً الأهمية التي يتميز بها حضورهم الإجتماعي و الإقتصادي و الثقافي، و حضورهم السياسي في بعض الحالات في الأقطار التي ينتمون اليها، و في المجتمع العربي قاطبة.
فخلال القرن التاسع عشر أدى المسيحيون في بلاد الشام، أي فيما يدعى اليوم سوريا و لبنان و فلسطين و الأردن الدور الرئيسي في النهضة العربية.
كما كان للمسيحيين العرب الدور الرائد في إنشاء الصحافة العربية، عندما وفد العديد من الأدباء و العلماء المسيحيين و معظمهم من لبنان إلى مصر فقاموا بتأسيس الصحف و الدوريات العلمية و الأدبية و دور النشر هناك.
و قد أسهم المسيحيون العرب منذ ذلك الوقت في العالم العربي في مجالات التربية و الطب و غيرها من المهن العلمية، و كانوا في جميع إنجازاتهم المثال الأعلى الذي يحتذى به.
و عندما بدأ العالم العربي ينتظم في دول في أعقاب الحرب العالمية الأولى، كان للطائفة المارونية الدور القيادي في تنظيم احدى هذه الدول و هي الجمهورية اللبنانية.
كما أدى مسيحيون آخرون، ادواراً مهمة في العمل السياسي، الذي أفضى إلى تنظيم دول عربية أخرى وصون مصالحها و المصلحة القومية العربية عامة، و هذا ما حصل بشكل ملحوظ في مصر و سوريا و العراق و كذلك في
فلسطين حيث التحم المسيحيون الفلسطينيون مع اخوتهم المسلمين الفلسطينيين في النضال و الكفاح معاً في سبيل تحرير فلسطين و الإبقاء على عروبتها منذ مائة عام و حتى يومنا هذا.
و يبقى المسيحيون العرب أهم المدافعين عن القضايا العربية القومية و خصوصاً القضية الفلسطينية.
و تبقى الحقيقة الهامة و هي أن المسيحيين العرب ليسوا أغراباً بأي شكل من الأشكال عن المجتمع الإسلامي، بل اشتركوا في صنع تاريخه، و اسهموا في حضارته و مدينته مادياً و معنوياً منذ أربعة عشر قرناً دون انقطاع، و قد كان اسهامهم بارزاً و بارعاً طوال هذه المدة و حائزاً على ثقة مواطنيهم و إخوتهم المسلمين.
و لا غرو في ذلك فأن المسلمين يجلون السيد المسيح عليه السلام إلى أسمى درجات الطهر و التقديس، و قد يصل إجلالهم له و للسيدة العذراء مريم البتول حداً كبيراً.
و لا غرابة في ذلك فإنني، اقتبس من كلام الله الذي أنزله على نبيه المصطفى و دون في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك حيث يقول تعالى: "إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك و رافعمك إلى، و مطهرك من الذين كفروا و جاعلاً الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه مختلفون.
و كذلك الأمر عن مريم العذراء، فقد ذكرت بشيء من التقديس و التعظيم في مواضع كثيرة من القران الكريم منها: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين. و قال تعالى:" و لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين و رهباناً و أنهم لا يستكبرون" صدق الله العظيم.
بقلم المحامي إبراهيم قندلفت
عضو المجلس التشريعي الفلسطيني
نقلاً عن جريدة القدس 2006/10/14
المسيحيون العرب ... أهم المدافعين عن القضايا العربية القومية
-
- معلومات
-
الموجودون الآن
الاعضاء المتصفحين: لا مشتركين و 1 زائر